3 رمضان 1441 هـ
في المسجد و بين صلاة
العشاء و التراويح تضم الأم ابنها ذو الثلاثة أعوام _ تقريبًا _ و هي تقبله بضحكة ،
بينما أخاه ذو الخمسة أعوام ينظر إليهم بشيء من الغيرة فيدسُّ رأسه بينهما و تضحك
الأم و تقبلهما معًا و هي تضمهما إليها ، ذو الثلاثة أعوام هذا كلامه ألطف من
النسمة ، يصلي بجانب أمِّه و أثناء السجود يرتفع صوت صفارة من المايكرفون ، فيصيح
بصوت حاد و بلهجة مضحكة جدًا بحزمها
" من يصفِّر ؟! " ، كان هذا هو الذي دفع امُّه لضمِّه إليها
ضاحكة ، لأنها بعد الصلاة وبَّخته على كلامه وقت الصلاة ، فردَّ عليها ببراءة " في حد كان يصفِّر و نحنا نصلي يا مامه ،
أنا كنتوا باصيح فوقه " ، لتضمُّه
بضحكة موضحة له " هذا المكرفون يا
ابني " ...
لفتني الأخ الأكبر ،
بعينيه الناعستين و وجهه الهادئ الذي لم يخفي غيرته و هو يدسُّ وجهه بين أمِّه و
أخيه ، أحببته و جدًا !
بعد أن ننهي الصلاة و
أتأهب للخروج ، أتباطأ أمام بوابة الخروج إلى الدَّرج فهي مزدحمة بالخارجات و
المسرعات و حتى الأطفال العابثين ، ألتفت
ليساري و أجد مُسِنَّة نحيلة ترتدي نقابها بيد مرتجفة و تريد ارتداء حذاءها ، نظرت
إلى حذائها الذي لم تستطع إدخال قدميها به ، و سرعان ما عرفت السبب فابتسمت بشيء
من الحبِّ لهذه المسِنَّة البريئة فالفردتين مقلوبتين ، دنوت و عدَّلتهما موضحة
لها السبب : " اصبري يا خالة باسانيهم لك
" ، تظهر تجعيدة على جانب عينيها الغائرتين بكبر السنِّ و تدعو بدعوات
كثيرة ، و ما إن اعتدلتُ بعد أن ساعدتها في ادخال قدميها في حذائها تلقفت وجهي و
قبلتني و هي مستمرة في إغراقي بدعواتها ، قبَّلتها على رأسها و عبرة مجهولة السبب خنقتني
، دفء انتشر في داخلي ، و غبت عن الواقع حتى وجدت نفسي نهاية السلالم أنتظر أخواتي
، لا أدري ما الذي جعلني أتأثر كثيرًا على بساطة الموقف ، و لكن على ما أظن فإن
دعواتها الصادقة بصوتها الهزيل هي من أدخلني تلك الدائرة المفرَّغة ، رائحتها عودٌ
مختلط برائحة العجائز الدافئة ، صوتها دافئ ، عينيها دافئتين ، دعواتها كادت
تحرقني بصدقها ، كانت صادقة جدًا للحد الذي زلزلني ...
الرحمة ليس مفهوم
عابر ، و لا مشاعر سريعة الذبول ، الرحمة سمة لا يملكها الكثيرون ، صفة صادقة
دائمًا بخلاف الشفقة تمامًا ، فبينما الرحمة تعني كامل الحب و الرأفة ، فالشفقة
تعني الرأفة و لا غير ، لذلك فالشفقة باردة دومًا ، تشعرك بالحنق و الضيق ، أما
الرحمة فهي دافئة و لا تصدر من أي أحد بل و لا يملكها كل أحد ، دافئة بالحبِّ و لا
تشعرك بالضيق بل تشعرك بالحياة و بالأهمية لدى أحبابك ، قال صلى الله عليه و سلَّم
: " إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " لم يقل " اشفقوا
" لأن الشفقة مصطنعة و مؤذية أكثر من أن تكون مفيدة ، فأما الرحمة فهي لا
تصدر إلا من قلب مُحبٍّ صادقٍ.
أتبحث عن الرَّحمة ؟
كم مرَّة قال الله في
كتابه : " و كان الله غفورًا رحيمًا
"
" و الله غفور
رحيم "
و في فاتحة كتابه قال
بآية واحدة : " الرحمن الرحيم "
اسمين من أسماء الله
، الفرق بينهما فرق العام عن الخاص ، فالرحمن عام لجميع الخلق و الرحيم خاص
بالمؤمنين...
مع من أنت ؟!
انظر إلى رصيدك من
رحمته ، استزد من طلب رحمته ، قُل : " ارحمني "
كيف سيرحمك ؟
يرحمك بنفسك بأهلك
بأحبَّتك بدينك ، بكل نواحي حياتك ، فلا تحصر الرحمة ، إن قلت " ارحمني
" فرحمته وسعت كل شيء و لن تعجز عن أن ترحم زواياك كلها ، ضعفك سيقوى ، عودك
سيُسَوَّى و ستكون بخير ؛ صدقني ستكون بخير.
كتبت في إحدى مذكراتي
من قبل :
[ ماذا عن قسوة
القلوب ؟
عن صدور لو رحمت لا
تستمر في رحمتها بسبب الظروف ؟
عن أرواح لرحمتها
حدود !
عن أقصى رحيم من بين
هؤلاء المخلوقات ؟
أمٌ و طفلها ترضعه في
أي ظرف ، عينها لا تنام إلا عند نومه ، تراقبه و تتفقده كل ثوان ، توفِّر لأجله كل
احتياجاته و لو اقتسمت من نصيبها له ، بينما هو لن يعاتب ، لن يفعل شيئًا سوى البكاء الذي ستسكته شربة
حليب و ضمَّة دافئة ، سيُخدع بسهولة و سينسى بكاؤه ، لكنها لا تخدع و لا تهتم إلا
به ، فتجده همها الأكبر و لو قدمت روحها فداه ..
·
من غير الأم له مقدار الرحمة كلها من بين كل هذه المخلوقات ؟
و نتعجَّب ثم نسبِّح خالق الرحمة في صدرها ، لقد أتعبها و أرهقها في بطنها ، كاد يقتلها
عند ولادته ، لكنها و بعد كل هذا تبتسم و تقبله بحبٍّ و شغف ، يكبُر و يرهقها
بشقاواته و مشاكساته ، و لكنها لا تهتم كثيرًا تفكِّر كيف ستخلي طريقه من أي عثرة
، كيف تهيئ له الحياة الرغيدة ، و تقوم آناء الليل تدعو له بالتوفيق و النجاح و
السعادة و تنسى نفسها ..
كيف يمكن أن تكون لها هذه الرحمة ذات الأبعاد الهائلة !
من خلق هذه الرحمة في صدرها ؟
من وهبها إياها فبالتأكيد رحمته أوسع ؛ بل قل " وسعت كل شيء "
يا رحمـن .. يا رحيـم
رحمته عامة لا يفوتها
شيء إلا شملته ، حتى أصغر المخلوقات و أحقرها ، وصلتها رحمته ، شملتها فباتت في
حمى الرحمن ..
سلام ..
هذا هو صاحب الرحمة
الواسعة ، هذا هو الربُّ الذي تتلهف لرحمته ، و ثق بأنه سيكفيك و سيقيك من الجفاف
و الوجع ، و سيأخذ عنك التفكير و التدبير ، فكل ما عليك أن تثق به و ستكون في رحاب
رحمته الشاملة لكل شيء ؛ فهيا لا تقلق ، أنت بخير كثير .. ]
" الصورة قديمة و التصوير بسيط جدًا ، و بخطِّي المتواضع و السريع أيضًا كعادتي في مذكِّراتي 😅 "
دفِّئ روحك الباردة ،
تدَّثر من الصقيع ، و احمِ داخلك من جمود مشاعرك ، و اطلب رحمته ، استرحمه يرحمك
..
في هذه الصورة نبل و شيء اقشعَّر له بدني ، رحيم هذا الرجُل ، رحيمٌ و عسى الرحيم أن يرحمُه ؛ و إن كنت لا أحبُّ معشر الكلاب إلا أنه ألجمني .. 👇🤐
* تنبيه : الصورة في الأعلى ليست من تصويري بالطَّبع ، و هي من صور الأمطار التي هطلت في عدن يوم الثلاثاء 21 - 4 - 2020 م *
إلى صاحب العينين
الناعستين :
( هل أخبرك أنني خمنت اسمك و كان صحيحًا !
لقد أعدت لي ذكرى
الركنُ المضيء ؛ سلَّمك و جمَّلك و أسعدك )
إلى المسنَّة الحبيبة
و إلى الأم الحنون الرحوم ، و إلى مُنقِذ الكلب و صاحب القلب الرحيم :
( سلًّم قلوبكم مولاي
، و أفاض عليكم من رحمته ، و كثَّر من أمثال قلوبكم النقيَّة ؛ ألهمتموني فلكم خالص التقدير و الفخر 💐 )

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق