12‏/6‏/2020

# فلسفة خاصة

الإنسان وحيد ، و طبيعة النفس البشرية لا يُتوقَّع منها الكثير


أحيانًا أشعر بالأسف و الندم العميق من نفسي ، و برغبة عارمة في الإعتذار من قلمي ، قلمي الذي أصبح بشكل ما غير قادر على الكتابة بدون أن يدسَّ الحب بين جنباته أو الفلسفة المحيِّرة فيه .
كنتُ سابقًا _ و عندما أقول سابقًا فهذا يعني سنينًا قليلة بالكاد مضت _ كنتُ صاحبة قلم نازف على الدوام ، فكر لا أستطيع تسميته خصبًا و لكنه جامح ، خيال لا أستطيع أن أقول عنه واسعًا و لكنه مبحر قليلًا ، و الآن كل ذاك الخيال تلاشى و تلك الإنسيابية السلسة اختفت ، صار مشوار أن أمسك قلمًا و أكتب عن خلجات روحي التي أثقلتني شيء رهيب ، و عمل أبقى أثني عليه كثيرًا كي أستمر .
أكره أن أفقد حماستي الأولى ، و أتألم لأنني لم أعد بسيطة كفاية كي أكتب بصدق انسيابي و سلس ، خيالي جاف ، و واسع فكري تقلَّص ، ورقات الرواية العالقة تجفُّ مع الوقت ، و أفكاري غير قادرة على التقدم ، و أصرُّ بعد استراحة قصيرة أن أستأنف الكتابة و لا جدوى ، أقول بأسى : سحقًا كانت فكرة جيدة و لو أنها واقعية إلا أن بدايتي دون شك مقبولة و جميلة ؛ ثم أقرُّ بأنني ما عدتُ تلك البسيطة القادرة على كتابة صفحات كثيرة بدون أن تعود لتصحِّح الكثير من الأشياء التي لا تحتاج للتصحيح ، لم أعد تلك التي تكتب و تكتب بكل صدق ، غير آبهة بالمظهر المنمَّق لها في هذا المجتمع ، و البساطة لا تُصطنع ، و السلاسة في الكتابة لا تُتعلَّم ، و الإنسيابية في الأحاديث أيضًا ليست في مجال التدرب ، آسفة لأنني ما عدتُ بسيطة كفاية كي أكتب بكلِّي و ليس بأشلاء بالية .

و لكن أَيَهُمُّ أيًّا من هذا ؟
في الحقيقة ما عاد يهمُّ ، و لكن يحبُّ الإنسان أن يتندَّم على أي ماضي ، بغض النظر عن حلاوته أو مرارته ، يحبُّ أن يقول : لو أنني عدتُ كذا ، لو أنني ما كنتُ كذا .
و أنا إنسان كفاية كي أسقط مخلِّفة فوضى أحبُّ تذكُّرها .
في مسرحية " حفل كوكتيل " لتولوستوي تقول سيليا و هي تشرح حالتها النفسية للطبيب رايلي : يجب أن أخبرك أولًا بأنني أحبُّ في الحق أن أعتقد أنني مريضة !
و تردف : لأني إذا لم أكن مريضة فهناك ثمة خطأ في العالم ، أو على الأقل شيء مختلف عما يبدو ، و ذلك أمر مخيف ، و لذلك فإني أفضِّل أن أعتقد أن الخطأ فيَّ و أن من الممكن إصلاحه .

سيليا تفاجأت بأن الإنسان وحيد ، وحيد تمامًا ، و أن ما حوله مجرَّد وهم أشخاص يظنُّهم قريبون منه كفاية كي لا يصبح وحيدًا كأي إنسان .
و الحقيقة أن الإنسان شاء أم أبى مخلوق وحيد تمامًا ، كما قال فاروق جويدة : الإنسان لابد أن يتعود على الوحدة حتى لا ينسى حقيقته الأولى التي ولد بها ، ولابد أن يرحل معها ، فنحن نولد وحدنا و نموت أيضاً وحدنا ، وبين الولادة والموت لا ينبغي للإنسان أن ينسى حقيقة أنه وحيد .

حقًا الإنسان وحيد و لكنَّه غالبًا ينسى هذه الحقيقة ، و مع أنه ينساها _ أو على الأقل يتناساها _ فإنه يعيش نمط حياته متمعِّنًا في نفسه أكثر من الآخرين ، يأبه كثيرًا لسعادته و لحزنه أوَّلًا بأول ، و يحرص دائمًا على تحرِّي صحَّته و أحواله ، و مهما كان يَعنى بالآخرين فنفسه البشرية تكون دائمًا في المقام الأول ، و باستطاعتي أن أقول بأن " سوبر إنسان " الذي يقوم بأشياء مدهشة في المقام البشري ، كأولئك الذين يعترفون بجرائم لم يقوموا بها ، أو الذين يتحمَّلون مسؤولية أشياء ليست من واجباتهم ، و بكل ذاك الصبر و الصدق الذي لا يُنكر ، فإن حقيقة ما يقوموا به لأجل أنفسهم!
كيف يقوموا بهذا لأجل أنفسهم ؟
بنظري أن الإنسان يحبُّ أن يرى نفسه مضحِّيًا ، يحبُّ أن يرى نفسه بطلًا ، و ربما يظلُّ يفكِّر بظروف قاسية يجمعها بحرص كي يشعر بنفسه قويًا رغمًا عنها ، هو لا يكره نفسه و لم يكن يومًا غير آبه بها و بآرائها إذ أنه كيف يفعل و هو يشعر بكل انفعالاتها و بكل الأشياء المزدحمة بداخلها ، أحيانًا يصل الإنسان إلى مرحلة أنه يكذب على نفسه ، بالطبع يفعل هذا لأجل نفسه و هذه ليست مسألة صعبة و لكنها أحيانًا تؤثِّر على شخصه هو ، فمثلًا يكذب على نفسه بالحقد تجاه شخص آخر أو حتى بالحب ، يظل يشحن نفسه بكل ما يعرفه عن الحقد ذاك أو الحب ، يستعين بفضوله بخبرته و بكل ما يعرفه كي يكن مثاليًا في ما سوف يفعله ، فبعض الناس مثلًا عندما يحقد ينظِّم عملية إجرامية بدقة وعالية و كفاءة مذهلة ، و بعضهم يحب أن يقوم بتضحيات اسطورية في سبيل الحب فمنهم من يترك الوطن و منهم من يتخلَّى عن الأحلام ، و منهم من يغيِّر نفسه كليًا لأجل الحب ، و في المقام الأول هذا الشخص سعيد بأنه كان مثاليًا في إجرامه أو حبُّه أو أيًّا من تلك المشاعر التي يترتب عليها أفعال حسية .
و عندما أقول هذا لا يعني أن لا وجود للحب الحقيقي ، و التضحيات الصادقة و لا المشاعر بحرفيَّتها ، فهذا يتعارض مع قول غالبية الأمة ، و القاعدة تقول : " ما اتفقت عليه الأمة فهو صحيح " ، إنما الحب موجود و التضحيات الصادقة لا بدَّ موجودة ، و برأيي أن هذا لا يتنافى مع رغبة الإنسان بها و دفعه لنفسه تجاهها حتى يكاد ينسى أنه هو من دفعها لهذا ، و لا شكَّ أن الإنسان رغم حقيقة وحدته إلا أنها لا تتنافى مع كرهه للوحدة الموحشة تلك ، فالوحدة التي جُبِل عليها هي ولادته وحده و موته وحده و الشعور بنفسه دون الآخرين طوال حياته ، و مع هذا فهو ميَّالًا للأُنس و القرب من الآخرين ، قربًا معنويًا يُهدِّئ دواخله الثائرة ، و أفكاره العشوائية ، يحتاج دومًا للنصح و المصارحة ، إنه إنسان ضعيف حياته ليست بيده و موته لا يعرف متى يحين ، و لهذا يحتاج من الآخرين مساندة لضعفه طوال حياته ، و لا أعرف أحدًا كان قويًا و ثابتًا دون أن يقترب من قلبه أحد ، لابدَّ يسقط مرَّات متعدِّدة و هذا مُشاهد بالطبع و موجود ، ففرقة من هؤلاء لم يكن بقربهم أحد بسبب ظروفهم و منهم من ساهم في إبعاد الناس من حوله و بشيء من الدراما أحبَّ أن يفوز في لعبة الوحدة و الإكتفاء بالنفس ، و لن يفوز و لن يفشل ، هو جُبِل على الوحدة و عاش على الأُنس ، سيسقط و يقوم ، و يقوم و يسقط ، هي معادلة بسيطة و لكنها محيِّرة بعض الشيء .

وحيد . قريب . ضدَّ القُرب . وحيد = طبيعة النفس البشرية.

و عودة للإنسان هذا ، فلديه احتياجاته الخاصة من الآخرين ، و إن قلنا أنَّه فاز بالعيش وحيدًا تمامًا ، فسيفشل في الرضا عن نفسه ، ذلك لأنه وضع في طريق احتياجاته الكثير من العوائق بعيشه وحيدًا خاويًا .
ستنتهي احتياجات الإنسان يوم أن يتوقَّف نبضه ، و وقتها ستسكت رغباته بقرب الآخرين ، و سيموت وحيدًا مع نفسه فقط ، هذه هي الحقيقة .
و في هذا السياق أتصوَّر الإنسان الواحد كورقة خريف تسقط وحيدة و لكنَّها لا تكوِّن صورة جميلة إلا بوجود أخواتها بجانبها ، و عندما تحملها الرياح فهي ستسافر وحدها تاركة المكان لغيرها بالإمتلاء بمثيلاتها من الأوراق المتساقطة .

وحيد تمامًا
يولد وحيد
يعيش
و يطلب المزيد
يصيح في الجميع
" اقتربوا اقتربوا "
يقترب الجميع
يتساند أعواد الخشب
ينخرها سوس الوجود
يتساقطون و لا يتساقطون
يتساندون
و فجأة يسقط
أحدهم يسقط
بعضهم يبقى
و يزداد آخرون
يتزايدون
بكل ضعفهم
واحدًا واحد
يتكاثرون
ثم يغادرون
واحدًا واحد
برتابة و ترتيب


يلفتني قول الآنسة ماربل في " جريمة في القرية " : إن من شأن امرئ راقب النفس البشرية كما راقبتُها أن لا يتوقَّع منها الكثير .
هل أتوقَّع الكثير ؟
أظنُّ أن عليَّ الإنتباه لهذا الأمر ...



 


الصورة من عند نفق" القلوعة " ، التقطتها قبل سنة على ما أظنُّ .

هناك تعليقان (2):

  1. تدوينة لطيفة
    استمري في الكتابة لا تسمحي لاراء الناس ان تحبطك

    ردحذف
  2. ولاء العزيزة لكم أثَّرت بي كلماتك ، شكرًا لك على التشجيع المستمر ، كل الودُّ لك و قبلتين 💝

    ردحذف

Follow Us @techandinv