أنهيت قبل لحظات
رواية " مرتفعات وذرينغ " ، كتاب حافل بالأحداث ، معقَّد بالعلاقات ،
مليء بالغرابة و لكنَّه أقرب للواقع بكثير من الخيال .
لم أسمع به من قبل !
، و لكن عند قراءتي لسلسة الشفق تذكره ستيفاني من ضمن كتب بيلا ، تملَّكني الفضول
نحوه خصوصًا عندما تقول ستيفاني على لسان بطلتها بيلا تعليقًا على الكتاب : كان
الحب هو الشيء الصحيح الوحيد الذي كان بين هيثكلف و كاثرن .
تسلسل الرواية مذهل
بدقته ، و لغته سهلة و سلسة على القارئ ، و رغم أن طريقة تصرُّفات الأبطال قد تبدو
مملَّة و مبالغ بها إلا أنني تابعتُ حتى النهاية بنفس وتيرة التشوُّق الهادئ ، و
لذلك أستطيع أن أعدُّ الرواية من تلك الروايات التي تجعلك تغوص بالتفكير في
العلاقات بجدية أكبر من العاطفة ، رواية كافية لتكون أدبية فكرية و لم أستغرب
كثيرًا عندما علمتُ أنها الرواية الوحيدة لإميلي برونتي ، لقد كتبت بصدق و بكل نضج
، و أظنُّ بأن من قد يكتب شيئًا كهذا ملمٌّ بكل هذه الأشياء سيشعر بأنه قد أدَّى
واجبه نحو الكتابة ، و بالفعل فالرواية التي بقي تأثيرها و تشويقها كل هذه السنين
منذ عام 1847 حتى الآن 2020 لا بدَّ أنها أدبية بالتأكيد ، و ثريَّة بالأفكار ، و
مُلهِمة حقًا .
ببساطة للرواية سأعطي
ممتاز ، و لولا المسيحية الباطلة التي تندسُّ في الحوارات و بعض الأحداث و حتى
شخصية يوسف ، لكنتُ بلا شك أعطيتها ممتاز جدًا .
ملحوظة صغيرة : للدين
اعطي نجمة دائمًا ، إن ذكر شيئًا يضادُّه بشكل عابر ، أما الكتب التي يكون غرضها
الرئيس نشر عقيدة فاسدة أو دين باطل ككتاب " قواعد العشق الأربعون "
مثلًا ، فإنها تسقط تمامًا بدون أسف .
كانت طفولة هيثكلف منذ البداية قاسية ، و لقد وقفتُ بصفِّه
منذ جاء به السيد أرنشو إلى مرتفعات وذرينغ ، طفل أسود بعينين سوداوين و شعر أسود
، جائع بملابس ممزَّقة ، و يحضر فيرمقه الجميع باشمئزاز و الألطف منهم نظر إليه
بشفقة ، السيد هندلي أرنشو لم يقبله ، الآنسة كاثرن أرنشو بصقت عليه ، و لكنَّه
رمق الجميع بصمت و سلَّم نفسه .
هيثكلف كبُر ، عينيه
توقَّدتا بشغف بالعلم ، و توق للصلاح ، كاثرن تقبَّلته بل أصبحت رفيقته ، و لكنَّ
التركيز الذي أولاه السيد أرنشو له لم يكن لصالحه حيث أن الجميع بدأ يراه سببًا في
تغيُّر السيد أرنشو ، و بكل وضوح كلنا نعرف أن البيض مهما أرادوا أن يكونوا متسامحين
بشأن السود كي لا يأخذوا لقب " عنصريين "، فإنهم لم يتوقَّفوا يومًا عن
التشاؤم بهم و عدم الإرتياح معهم بشكل عام باستثناءات محدَّدة ، لذا لم يكن في
منزل السيد أرنشو من يرتاح برؤية هيثكلف كثيرًا ، و مهما حاول الصغير أن لا يرى
هذا فإنه لم يتردَّد يومًا أن يردَّ على عدم ارتياحهم بالظهور بمنزلة أقرب للسيد
أرنشو و حتى القيام ببعض التصرُّفات القاسية التي تجعلهم يتميَّزون من الغيظ و
لكنهم يصمتون كي لا يغضب السيد أرنشو .
هيثكلف طفل مشرَّد ،
هيثكلف أسود ، هيثكلف يتمتَّع بدلال السيد أرنشو بدلًا من أبنائه الحقيقيون ،
هيثكلف يجب أن يخرج من المنزل ، و لكن السيد أرنشو سيغضب ، هيثكلف يتجبَّر في مكان
ليس ملكه ، هيثكلف يجب أن يغادر .
عاد هيثكلف بانتقام و
ليس بطلب انضمام ، هيثكلف يدمِّر بدون توقُّف ، يدمِّر كل ما يشبه الماضي ، هيثكلف
حريص على محو اسم عائلتي " أرنشو و لنتون " للأبد ، مقابل نبذهم له
باستثناء السيد أرنشو ، هيثكلف يخفق .
طفلة كاثرن و لنتون غدت
تحبُّ طفل هندلي أرنشو ، و طفل هيثكلف و إيزبيلا لنتون مات أو الأحرى قَتَله أبوه !
كاثرن أرنشو في كلا
الوجهين ، وجه طفلتها و وجه ابن أخيها ، و لم يكن طفل هيثكلف يومًا يشبه كاثرن
الحبيبة .
كاثرن تطارده كشبح ،
كاثرن موجودة على الدوام و هو يؤمن بهذا ، كاثرن تعاقبه فلا شيء منها بقي في وجه
طفله و لا حتى في وجهه هو ، كاثرن مرضه المزمن ، كاثرن التي لا يربطها به سوى الحب
و ما عدا ذلك فهو خاطئ تمامًا ، كاثرن سلبته كل آماله باعتقادها بأنها سينحط اسم
عائلتها بزواجها منه ، كاثرن ميتة و هو حي ، لا زال يمزِّق كل ما تبقَّى من
العائلتين ، تعب من الإنتقام ، و يجب أن ينتقم من كاثرن على زواجها من لنتون ، يرى
وجهها خلسة في التابوت ، و يزفر أخيرًا بارتياح ، و يذهب ...
لكنَّها تتبعه أينما
ذهب ، بات متأكِّدًا من أنها معه ، ينسى حبه لها فيمرض بها ، يموت هيثكلف قبل أن
ينهي انتقامه .
عائلة لنتون و عائلة
أرنشو لا زالت موجودة ، و لكنه لم يعد موجودًا ، ذهب حيث تكون كاثرن ، مات بها بعد
طول موت !
الحياة المعقَّدة
بالحب ، بالكره ، بالإنتقام ، بهذه المشاعر الإنسانية العنيفة ، تبدو أكثر سلامًا
بالتخفيف منها ، و التقليل من جرعتها ، و لكن أنَّى هذا و الإنسان العنيف لا زال
نحن .
لو لم يحبُّ السيد
أرنشو هيثكلف لما جاء هيثكلف إلى مرتفعات وذرينغ ، و ما أحب كاثرن ، و ما كرهه أهل
المنزل ذلك الكره ، و ما انتقم هو فيما بعد منهم أجمعين .
مشاعر إنسانية بحتة ،
و لكن المبالغة رافقتها فأصبحت مدمِّرة أكثر من أن تكون دافئة و مُصلِحة .
بهذا الكتاب أتأكَّد
أن المبالغة دومًا مؤذية ، و أن زرع اليوم لابدَّ يحصد غدًا أيًا ما كان ، و أن
الحبَّ عندما يتحوَّل إلى مرض فليس لنا سوى الإبتعاد حرصًا على أنفسنا أولًا و على
الذكريات الجميلة تاليًا ، فلماذا نلطِّخ اللوحة التي رسمناها معًا بالأسود ؟
كان يمكن أن نعلِّقها
على جدران الذاكرة فنبتسم عند رؤيتها و نمضي !
و علمتُ أن مكان
الإنسان يجب أن يكون هو المكان الصحيح كي لا يصبح الإنسان ذا وجود خاطئ ، و بهذا
أعرف أن الإبتعاد ليس حلًا سيئًا ، و أن شجاعته أهم بكثير من الحفاظ على نفس
المكان .
إميلي برونتي توفيت
بعد عام واحد من كتابة هذه الرواية ، و رغم أنني أعرف أنها ماتت بداء السل ، فإنني
أفضِّل أن أرى بأنها ماتت بعد أن أدركت بأن كتابها حمل كل مشاعرها الإنسانية التي
يمكن أن تبثَّها مع الوقت ، لذا لم يبقَ لها الكثير منها سوى ما عاشت بها عامًا
واحدًا بوهن المرض الذي بالتأكيد لم يستلزم منها مشاعر إنسانية كثيرة ، ماتت إميلي
و لكن بعد أن أعطتنا نبذة عن جانب انسانيتنا المدمِّر أكثر من الباني أحيانًا .
مصدر الصورة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق