26‏/6‏/2020

# كتب

بين صفحات " مرتفعات وذرينغ " لإميلي برونتي .


أنهيت قبل لحظات رواية " مرتفعات وذرينغ " ، كتاب حافل بالأحداث ، معقَّد بالعلاقات ، مليء بالغرابة و لكنَّه أقرب للواقع بكثير من الخيال .
لم أسمع به من قبل ! ، و لكن عند قراءتي لسلسة الشفق تذكره ستيفاني من ضمن كتب بيلا ، تملَّكني الفضول نحوه خصوصًا عندما تقول ستيفاني على لسان بطلتها بيلا تعليقًا على الكتاب : كان الحب هو الشيء الصحيح الوحيد الذي كان بين هيثكلف و كاثرن .

تسلسل الرواية مذهل بدقته ، و لغته سهلة و سلسة على القارئ ، و رغم أن طريقة تصرُّفات الأبطال قد تبدو مملَّة و مبالغ بها إلا أنني تابعتُ حتى النهاية بنفس وتيرة التشوُّق الهادئ ، و لذلك أستطيع أن أعدُّ الرواية من تلك الروايات التي تجعلك تغوص بالتفكير في العلاقات بجدية أكبر من العاطفة ، رواية كافية لتكون أدبية فكرية و لم أستغرب كثيرًا عندما علمتُ أنها الرواية الوحيدة لإميلي برونتي ، لقد كتبت بصدق و بكل نضج ، و أظنُّ بأن من قد يكتب شيئًا كهذا ملمٌّ بكل هذه الأشياء سيشعر بأنه قد أدَّى واجبه نحو الكتابة ، و بالفعل فالرواية التي بقي تأثيرها و تشويقها كل هذه السنين منذ عام 1847 حتى الآن 2020 لا بدَّ أنها أدبية بالتأكيد ، و ثريَّة بالأفكار ، و مُلهِمة حقًا .
ببساطة للرواية سأعطي ممتاز ، و لولا المسيحية الباطلة التي تندسُّ في الحوارات و بعض الأحداث و حتى شخصية يوسف ، لكنتُ بلا شك أعطيتها ممتاز جدًا .

ملحوظة صغيرة : للدين اعطي نجمة دائمًا ، إن ذكر شيئًا يضادُّه بشكل عابر ، أما الكتب التي يكون غرضها الرئيس نشر عقيدة فاسدة أو دين باطل ككتاب " قواعد العشق الأربعون " مثلًا ، فإنها تسقط تمامًا بدون أسف .

كانت طفولة هيثكلف منذ البداية قاسية ، و لقد وقفتُ بصفِّه منذ جاء به السيد أرنشو إلى مرتفعات وذرينغ ، طفل أسود بعينين سوداوين و شعر أسود ، جائع بملابس ممزَّقة ، و يحضر فيرمقه الجميع باشمئزاز و الألطف منهم نظر إليه بشفقة ، السيد هندلي أرنشو لم يقبله ، الآنسة كاثرن أرنشو بصقت عليه ، و لكنَّه رمق الجميع بصمت و سلَّم نفسه .


هيثكلف كبُر ، عينيه توقَّدتا بشغف بالعلم ، و توق للصلاح ، كاثرن تقبَّلته بل أصبحت رفيقته ، و لكنَّ التركيز الذي أولاه السيد أرنشو له لم يكن لصالحه حيث أن الجميع بدأ يراه سببًا في تغيُّر السيد أرنشو ، و بكل وضوح كلنا نعرف أن البيض مهما أرادوا أن يكونوا متسامحين بشأن السود كي لا يأخذوا لقب " عنصريين "، فإنهم لم يتوقَّفوا يومًا عن التشاؤم بهم و عدم الإرتياح معهم بشكل عام باستثناءات محدَّدة ، لذا لم يكن في منزل السيد أرنشو من يرتاح برؤية هيثكلف كثيرًا ، و مهما حاول الصغير أن لا يرى هذا فإنه لم يتردَّد يومًا أن يردَّ على عدم ارتياحهم بالظهور بمنزلة أقرب للسيد أرنشو و حتى القيام ببعض التصرُّفات القاسية التي تجعلهم يتميَّزون من الغيظ و لكنهم يصمتون كي لا يغضب السيد أرنشو .


هيثكلف طفل مشرَّد ، هيثكلف أسود ، هيثكلف يتمتَّع بدلال السيد أرنشو بدلًا من أبنائه الحقيقيون ، هيثكلف يجب أن يخرج من المنزل ، و لكن السيد أرنشو سيغضب ، هيثكلف يتجبَّر في مكان ليس ملكه ، هيثكلف يجب أن يغادر .

عاد هيثكلف بانتقام و ليس بطلب انضمام ، هيثكلف يدمِّر بدون توقُّف ، يدمِّر كل ما يشبه الماضي ، هيثكلف حريص على محو اسم عائلتي " أرنشو و لنتون " للأبد ، مقابل نبذهم له باستثناء السيد أرنشو ، هيثكلف يخفق .
طفلة كاثرن و لنتون غدت تحبُّ طفل هندلي أرنشو ، و طفل هيثكلف و إيزبيلا لنتون مات أو الأحرى قَتَله أبوه !
كاثرن أرنشو في كلا الوجهين ، وجه طفلتها و وجه ابن أخيها ، و لم يكن طفل هيثكلف يومًا يشبه كاثرن الحبيبة .
كاثرن تطارده كشبح ، كاثرن موجودة على الدوام و هو يؤمن بهذا ، كاثرن تعاقبه فلا شيء منها بقي في وجه طفله و لا حتى في وجهه هو ، كاثرن مرضه المزمن ، كاثرن التي لا يربطها به سوى الحب و ما عدا ذلك فهو خاطئ تمامًا ، كاثرن سلبته كل آماله باعتقادها بأنها سينحط اسم عائلتها بزواجها منه ، كاثرن ميتة و هو حي ، لا زال يمزِّق كل ما تبقَّى من العائلتين ، تعب من الإنتقام ، و يجب أن ينتقم من كاثرن على زواجها من لنتون ، يرى وجهها خلسة في التابوت ، و يزفر أخيرًا بارتياح ، و يذهب ...
لكنَّها تتبعه أينما ذهب ، بات متأكِّدًا من أنها معه ، ينسى حبه لها فيمرض بها ، يموت هيثكلف قبل أن ينهي انتقامه .
عائلة لنتون و عائلة أرنشو لا زالت موجودة ، و لكنه لم يعد موجودًا ، ذهب حيث تكون كاثرن ، مات بها بعد طول موت !


الحياة المعقَّدة بالحب ، بالكره ، بالإنتقام ، بهذه المشاعر الإنسانية العنيفة ، تبدو أكثر سلامًا بالتخفيف منها ، و التقليل من جرعتها ، و لكن أنَّى هذا و الإنسان العنيف لا زال نحن .

لو لم يحبُّ السيد أرنشو هيثكلف لما جاء هيثكلف إلى مرتفعات وذرينغ ، و ما أحب كاثرن ، و ما كرهه أهل المنزل ذلك الكره ، و ما انتقم هو فيما بعد منهم أجمعين .


مشاعر إنسانية بحتة ، و لكن المبالغة رافقتها فأصبحت مدمِّرة أكثر من أن تكون دافئة و مُصلِحة .


بهذا الكتاب أتأكَّد أن المبالغة دومًا مؤذية ، و أن زرع اليوم لابدَّ يحصد غدًا أيًا ما كان ، و أن الحبَّ عندما يتحوَّل إلى مرض فليس لنا سوى الإبتعاد حرصًا على أنفسنا أولًا و على الذكريات الجميلة تاليًا ، فلماذا نلطِّخ اللوحة التي رسمناها معًا بالأسود ؟
كان يمكن أن نعلِّقها على جدران الذاكرة فنبتسم عند رؤيتها و نمضي !
و علمتُ أن مكان الإنسان يجب أن يكون هو المكان الصحيح كي لا يصبح الإنسان ذا وجود خاطئ ، و بهذا أعرف أن الإبتعاد ليس حلًا سيئًا ، و أن شجاعته أهم بكثير من الحفاظ على نفس المكان .

إميلي برونتي توفيت بعد عام واحد من كتابة هذه الرواية ، و رغم أنني أعرف أنها ماتت بداء السل ، فإنني أفضِّل أن أرى بأنها ماتت بعد أن أدركت بأن كتابها حمل كل مشاعرها الإنسانية التي يمكن أن تبثَّها مع الوقت ، لذا لم يبقَ لها الكثير منها سوى ما عاشت بها عامًا واحدًا بوهن المرض الذي بالتأكيد لم يستلزم منها مشاعر إنسانية كثيرة ، ماتت إميلي و لكن بعد أن أعطتنا نبذة عن جانب انسانيتنا المدمِّر أكثر من الباني أحيانًا .




 مصدر الصورة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Follow Us @techandinv