2 رمضان 1441 هـ
اليوم بدأ الكثير منا يعتاد على الصيام ؛ أذهب لصلاة التراويح في المسجد ، الكهرباء مقطوعة ، و " الماطور
" يشغِّل اللمبات و المراوح في المسجد ، مع كثرة المصلِّيات يبدأ الجو يختنق
، الرطوبة تزداد ، نصلِّي العشاء و تنسحب احداهن بعدم قدرة على الإحتمال ، بينما
نتابع نحن الصلاة و كلما سلَّمنا من ركعتين تهز إحدى الكبار بالسنِّ رأسها بأسف
مصدرة صوت من فمها كناية عن الحرِّ ، فأبتسم متعجبة من عدم يأسها من إصدار نفس
الحركة التي لا تغني من حرِّ !
في طريقي للبيت أتأمل
الشقق القليلة المزينة بأضواء لطيفة بألوان متعددة ، و فوانيس رمضان معلَّقة على
الشُّرفات بإضاءة جميلة ، الحركة بدأت تدبُّ في الشارع من بعد الصلاة ، يلفتني
زقاق ضيِّق و قذر بين بنايتين ، يصل بين الشارع الرئيسي و حديقة خلفية ، و يصل بين
احدى الشقق سلك من الإضاءات الملوَّنة ، بدا و كأن البنايتين تتصافحان ، و كأنهما
لا تعيران الفوضى التي في الزقاق و لا القاذورات المنثورة هنا و هناك حتى يكاد لا
يصبح هناك مكان للسير انتباهًا و لا اهتمام !
فكَّرت : هي البساطة
إذن !
نفس الذي حدث مع
كبيرة السنِّ في المسجد ، أن يتجاهل الإنسان الأشياء المزعجة فارضًا عليها رضاه و
تحمُّله ، و هذا أكثر ما يمكنك أن تجده في مدينتي الجميلة البسيطة ، أنوارهم قليلة
و رغم ذلك كانت جميلة و لطيفة ، منازل صغيرة و لكن رحبة بالدفء ، الناس هنا بسطاء
جدًا ، ملابسهم بسيطة فالمهم أن تكون نظيفة و مرتبة ، سياراتهم صغيرة تكفيهم ، حتى
المواصلات اعتمد الكثير من العاملين الدباب الصغير ، و بات الباص " الهايس
" مخصصًا للرحلات التي تقطع الطريق البحري أو الأماكن البعيدة ، تشاهد فطورًا
جماعيًا كل الوجبات فيه _ تقريبًا _ من صنع ربات البيوت ، و بسيطة جدًا و تجد
المفطرين عليها في أشد الرضا بها ، إننا اعتدنا هذه البساطة ، أحببناها حتى لا
أكاد أتخيَّل نفسي يومًا أعيش بدون إزعاج المارين في الشارع إما ينادون أو حتى
يتحدثون بصوت عال ، إزعاج الأطفال في الشارع ، مرور السيارات التي تعتبر كـ "
مخدَرة متنقلة " بصوت المسجل العالي
فيها ، تبدو تصرفات غير راقية و لكنها باتت اعتيادية جدًا ، حتى انقطاع الكهرباء
صار اعتيادي صحيح أننا نحنق عندما يطول ، و لكننا رضينا به بل و امتهنَّا عدِّ
الساعات و كم سيستغرق الوقت لتعود ، مرَّة قالت واحدة أعرفها عندما لم تنقطع الكهرباء
كالعادة : " تصدقوا بدأت أقلق على أصحاب الكهرباء فينهم ما طفوهاش ؟! "
أرسل لصديقتي عبر
الواتس اب رسالة قلقة عن حالها و حال منزلهم من بعد المطر خصوصًا و منزلهم أرضي ،
فترسل لي صورًا للمنزل من الداخل ، الماء يصل للساقين ، و الحال يرثى لها و ترفق
تعليقًا لها بكثير من الوجوه الدامعة من كثرة الضحك ! قائلة : " شوفي غرقنا
" ، تستوقفني صورة " للدَّارة
" أو " البرنده " الماء مرتفع و عدد من شباشب المنزل تطفو
على سطحه ، لم أعرف هل أضحك أم أقلق و لكنني ابتسمت و رددت بقلق : " طيب و
كيف سويتوا ؟ " ، تجيبني بوجوه ضاحكة أيضًا : " كانوا عيال الحافة
بيدخلوا ينقذونا هم و عيال عمي بس الباب مرضاش يفتتح مع المي فكسروا الجدار "
، زفرت براحة و سألتها : " و انتو اش كنتوا تفعلوا داخل ؟! " ردت بكلمة
واحدة و وجوه ضاحكة كثيرة : " نلعب " ! ، وقتها ضحكت كثيرًا و شعرت
بالفخر لا أدري لمَ ! ، شعرت بأننا شعب لا تهزمه الظروف ، شعب صقلته الأيام فبات
قويًا يستمتع ببساطته و يحرص على ابتسامته وسط كل النوازل ، فعندما قالت صديقتي
بأنهم كانوا يلعبون ، كانت تطمئنني و تواسيني و كأنه ليس مصابها ، كانت تربِّت على
كتفي القَلِق تذكرني بأنَّه مهما حدث هي لن تتخلى عن سلاحها الساخر من كل الظروف ،
لن تتظاهر بأن منزلهم ذا أساس قوي و احتياطات للأمطار بحيث لم تصلهم ، لم تحاول
تجميع الشباشب قبل أن تصوِّر ، و لم تأخذ صورة احترافية أو مأساوية للوضع الذي
صاروا إليه ، و كذلك الكثير من الناس هنا ، على قدر المصيبة التي أصابتهم إلا أنهم
يبتسمون برضا و يتعاملون معها بهدوء _ و أنا أتحدث عن أهل هذه المدينة و ليس
سكانها و هناك فرق _ ، على كلٍّ البساطة
سهلة جدًا و لكنها تريد جرأة ، تريد منك أن تكون شفافًا جدًا دون قلق من نظرات
الشفقة ، تفعل الأشياء المريحة بكل وضوح و دون تحسُّب لنظرة فلان عنك أو شفقة
علَّان عليك ، تبقى واضح و راضٍ بشكل يدفع الشفقة عنك و يزيد موقفك قوة ، تمامًا
كما فعلت صديقتي فقد سكتت كلمات مواساتي و دعوت لها فقط بالعون ، فقد أسكتني رضاها
و استوقفتني قوتها بالمواجهة و أعجبت ببساطتها جدًا ، شخصيتها التي ظننتها دومًا
مستهترة أو باردة صفعتني من قلب الموقف و جعلتني أقف مدهوشة أمام صراحتها التي لا
أملكها كثيرًا ...
نحن قومٌ اعتدنا على
هذه الأشياء بكل تعاستها ، رضينا بها بل صارت جزءًا منَّا ؛ البساطة هو أن تترك
التكلف بكل أشكاله ، أن ترضى بكل ما لديك ، أن تكون صادقًا جدًا بشكل يجعلك تشعر
بالخفَّة و الراحة ، و هذا هو ما فعلناه بل وفعله أهل مدينتي منذ سنين طويلة بل و
اشتهروا به كسمة أساسية فيهم ، و نبقى مهما تظاهرنا بالتكلُّف نملُّ سريعًا و
نعاود العودة لبساطتنا المريحة ..
قبل شهر _ تقريبًا _ افتتحت كثير من محلات تجهيز الهدايا
و تنظيم الباقات بشكل مبهر و متكلِّف جدًا ، لا أعرف من أين دخلت علينا فكرة
الهدايا هذه و لكننا اعتبرناها شيء جديد مذهل ، بعد فترة بدأ الجميع يتهادى بهذه
الطريقة ، و غالبًا تكون الهدية عبارة عن كثير من الشوكولا سواء غُلِّفت بباقة أو
وضعت في صندوق فاخر ، بصراحة بدأ الكثير منَّا يملُّ الأمر خاصة و قد بدأ كثير من
النفاق يتفشى ، و صار تبادل الهدايا بمفهوم " هبلي بهبلك "و يعني أن
أعطيك هدية و تردُّها علي ، فصارت الهدايا عبئ لم يعد لذيذًا كما كان ، تذمَّرت
أختي كثيرًا و قرَّرت أن تهدي صديقاتها بكل بساطتها التي اعتادتها قبل ظهور هذه
المحلات ، فباتت تشتري الأشياء و تضعها بنفس كيس السوبر ماركت و تهديها لصديقاتها
دون أن تأبه للموضة الجديدة ! ، تفاجأت صديقاتها و ضحكن كثيرًا منها و اتَّهمنها بكبر
السنِّ و اعراض الشيخوخة التي جعلتها تهدي بهذه الطريقة البدائية ، و بعد فترة صار
الأمر خانق جدًا و اشتقت للهدايا البسيطة جدًا ، حيث يجلب لك من يحبك شيئًا يعجبك
بكيس عادي و رسالة قصيرة بدون كتابات منمقة و مبالغ بها ، و أردت أن أهدي أختي
زبدة اللوتس التي بحثت عنها طويلًا و لم تجدها ، و كرهت أن أغلفها بتكلُّف ، فقرَّرت
أن أجعلها تبدو كنكتة ، و ربطت حول العلبة خيط خيشة كتبت بخط عاديٌّ جدًا و بشكل سريع " أيتها البنت
الطويلة " كنت أسخر من رسالة كتبتها إحدى المتكلِّفات و ذُهِلت من كذبها
لأنني أعرف أن التي أهدت الهدية و كتبت الكلمات ليست على توافق كبير مع التي أهدت
لها ، كتبت : " أيتها البنت المضيئة .. في ليل الظلمة " !
و أخرى كتبت : "
و كأنك خُلِقت من زمرد الورد "
حسنًا ... أكره الكذب
حتى و إن كان بداعي المجاملة ، يبدو الأمر سخيفًا جدًا و مزريًا أيضًا ! ،
المبالغة أحيانًا تجعل النص باهتًا ، و تشوه جمال الحقيقة ، هل تعرف كم تبلغ بلاهة
العاشقين عندما يقولون " سوف أبقى
معك للأبد " ، للأبد هذه كلمة جعلت العبارة غبية ، و هم يعرفون بأن لا أحد
يبقى للأبد ، و لكن في غمرتهم ينسون هذه الحقيقة ...
البساطة أمر ليس بتلك
السهولة إن لم تكن معتاد عليه ، عليك أن تتخلص من كل أقنعتك ، أن تنسى كل كذبك ،
أن تبدأ صفحة جديدة صادقة لا مجال في الكذب فيها و لا التنميق و لا التكلُّف ، و عندما
تعتادها أعدك أنك ستجد راحة كبيرة بها ، و ستشعر بنفسك خفيفًا جدًا ، لا تخشَ
شيئًا و لا تتوتر من شيء تخاف إنكشافهُ ، و هذه خطوة مهمة نحو سلامك الداخلي و
تصالحك الذاتي الذي ستخلصه من أعباء ثقيلة دون جدوى و لا نفع.
رسالة إلى صديقتي الحبيبة ، صاحبة القلب الأنقى ، و إلى المُسِّنة
التي صبرت على الحرِّ و تابعت صلاتها دون انسحاب ، و إلى أختي المضيئة بحقّ :
( شكرًا لبساطتكم ، لرضاكم بكل الظروف ، لإبتساماتكم المنيرة ، و
لأنكم أوضحتم لي جمال البساطة و قوة الرضا ، فعسى الإله أن يحفظ ابتساماتكم ، و
يحمي أرواحكم ، و يحفظكم كما أنتم )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق