25‏/4‏/2020

# تأمـلات # رسائل لن تصل

الهدايـة ، و فتاة النظارات





 اليوم هو أول أيام شهر رمضان المبارك لعام 2020 م 


و كعادتي أهتمُّ كثيرًا بالبدايات و النهايات أيضًا بينما أترك لنفسي حرية الغرق في أحداث الوسط ، أبدو اليوم متأملة أكثر من المعتاد ، أتأمل تقلُّب الأجواء بحيث يصبح الليل حيوي و الصباح ساكن تمامًا ، أراقب من شرفتنا وجوه العابرين المُتعبة من الصيام كأول يوم ، و أتأمل أول إفطار لرمضان السنة ، أختار ملابسي بعناية عندما أذهب لصلاة التراويح في المسجد ، رغم أنني سأبقى بعباءتي إلا أنني أخترت قميص بارد حيوي و مريح ، اخترت لون روج هادئ ، ارتديت حجابي البنفسجي ، و خرجت إلى المسجد مع أخواتي ، أتأمل الشارع الساكن تمامًا ، يتهامسن أخواتي إن كان مصلى النساء مفتوحًا أم مغلقًا و سنعود أدراجنا ! ، فأدعو برجاء أن يكون مفتوحًا ، و أعود للسير ببطء أتأمل المحال المغلقة ، الرجال الذاهبون إلى المسجد ، إذان العشاء يرتفع فأعاود السير بلهفة أكبر ، افتقدت لصوت الإمام ، لوجوه المصليات اللواتي اكتسبت معهن صداقة دون حديث فقط نظرات و ابتسامات ، و ما إن أصل إلى حارة المصلى ، ازفر براحة لرؤيتي أطياف النساء من خلف زجاج نافذة على السلالم ، أسارع بخطواتي و أقرأ دعاء الدخول و أنا أصعد في سلالم المسجد الضيقة ، أخلع حذائي و أضعه في الصندوق ، و قد ابتسمت بلا معنى لكل من أعرفه و من لا أعرفه ، أتفقَّد من أعرفه منهن ، أبتسم لطفلة تجلبها جدتها معها كل رمضان عندما رأيتها أول مرة كانت تقريبًا في الثالثة و الآن هاهي تكاد تبدو في السادسة أو السابعة ، كانت مشاغبة جدًا و قد تذمَّرت المصليات منها كثيرًا أما الآن فهي تصلِّي بهدوء و إن لم تتخلَّ عن الحركة التي يتَّصف بها الأطفال ، و هذه امرأة تصلِّي على كرسي لا زالت عقدة حاجبيها كما هي ، منزعجة جدًا من الأطفال في الخلف ، الأستاذة التي ترتِّب الصفوف تعطي إشارة جديدة هذه السنة في تنظيم الصف  " اجعلوا الصف مرتخٍ قدر الإمكان دون أن تدعوا فرجة للشيطان " و بالعدني مختصرة " لا تتداحشوش " ، و بالطبع السبب هو الوقاية من كورونا الذي لم يصلنا _ و الحمدلله _ و لكن كما يقال : " توخَّ الحذر "  ؛ نبدأ الصلاة يقرأ الإمام بصوته المميز و لحنه الذي لم أسمعه من أحد غيره ، له قراءة مميزة فعلًا ، ينهي العشاء و لا يتأخر كثيرًا بعد أن تسنَّنَّا لها ، يصلي و لا يطيل ، يتبادل الأئمة ، كلُّ واحد منهم يشدُّك للخشوع بطريقته ، و سرعان ما ننهي الثمان الركعات ، نقوم لنصلي الوتر ، و يا إلهي إنه الإمام المسنُّ الذي يقرأ بطريقة محبَّبة جدًا ، صوته كنسمة أو كشيء يعبر السمع فيرجف الفؤاد بطريقه ! ، قراءته تجعل في المسجد سكون هادئ و كأن المصلُّون يكتمون أنفاسهم ليصغوا إلى صوته الأليف ، و أنهى الوتر خفيفة كعادته ، أجلس قليلًا و تلفتني الفتاة التي تصلِّي أمامي ، تبدو في الخامسة عشرة ترتدي نظاراتها ، بحجابها و عباءتها ، تقف بهدوء لتغادر فتتلاقى نظراتنا نبتسم و نمضي كلٌّ في سبيله فبينما هي تغادر المسجد ، أذهب لأسلم على المعلمة التي تعلِّم في نفس مكان عملي ، هي فترة صباحية و فئة كبرى و أنا فترة مسائية فئة صغرى ، لا أعرفها كثيرًا إلا أننا التقينا في رحلات نظمتها الإدارة و بعض زياراتي للفترة المسائية من قبل ، سلَّمت عليها و غادرت أرتدي باقي حجابي و لا زالت فتاة النظارات في رأسي ...



كنتُ أفكِّر بها ، أفكِّر بانتظامها الدائم على الحضور للصلاة في المسجد ، منذ كانت في العاشر تقريبًا ، تحضر بهدوء و تجلس في الصفوف الأمامية بدون صوت ، تصلِّي بدون حركة كثيرة كمن هم في عمرها ، بشوشة لكنها ليست فضولية و لا " هدَّارة " ، تجيب على قدر السؤال ، و تبتسم بهدوء و رزانة ، بين الإذان و الإقامة تفتح المصحف و تقرأ بصوت خافت ، و عند المغادرة تغادر وحدها بهدوء و خفة تامَّة .. 


الذي جعلني أفكِّر بها كثيرًا هو استمرارها على نفس المنوال كل سنة ، أجيئ و أراها كما هي ، هادئة و وحيدة و منسجمة جدًا في أجواء الصلاة ، طرقت بالي فكرة عنها تجسِّدها " مهتدية  " !

نعم مهتدية ، فمن هم في عمرها يكنَّ في قمَّة الطيش ، لو أنها تحضر مع أحد لكنت قلت يجبرها على الحضور ، لكنها تأتي وحيدة و تغادر وحيدة بنفس الخفَّة ، أيُّ هداية هي التي وهبها الله !

أهي دعوة والدتها ؟ ، أم هو اصطفاء ؟ ، أم أنَّها كيتيمين سورة الكهف و أبواها كانوا صالحين ؟ّ ، أم أنها تقرأ " إهدنا الصراط المستقيم " بكل انتباه دائمًا ؟

حالها يجعلني أتفكَّر في حكمه : " و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " ، و أتمعَّن في قوله : " إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء "

الهداية ليست حصرًا على نسب و لا على بلاد و لا على فئة ، فمن عدله أن لم يختَّص مؤمنين محدودين بالهداية ، و برحمته هدى بعض الكافرين لصراطه المستقيم ، الله هو الهادي ...







وقفـة ..

في كل يوم نصلي خمس صلوات ، نقرأ في كل ركعة منها " إهدنا الصراط المستقيم " ، إذا حسبت عدد مرات قراءتك لها فستجد أنها 17 عشر مرة في اليوم الواحد فقط !

السؤال هنا : كم مرّة من المرَّات قرأتها بتمعُّن ، برجاء و بإدراك لما تقرأ ؟!



الله يهدينا دائمًا دون أن نشعر ، يهديك لتستيقظ على صوت اذان الفجر بدون منبِّه فيؤنسك صوته كشمعة وسط غسق الليل و وحشته ، يهديك عندما تقرع مسمعك آية مذكِّرة فتتراجع عن نية عصيان ، يهديك لتردد وسط زحمة الحياة " لا إله إلا الله " ، يهدينا و لكننا لا ننتبه فنحرص على طلب المزيد من هدايته ..






الهداية أمرها عظيم ، و كثير من الناس يجدها ، و لكن قلَّ من يتنَّبه لها فيداوم على طلبها و المسير مع شعلتها ، فبينما أحد يجد شعلة هداية وسط عتمة الدنيا فيتركها مفضِّلًا البقاء في شهوات الدنيا على السير مع شعلة هداية حتى النجاة ، هناك آخر وجد شعلته فحرص على السير في نورها دون ملل ، ليصل إلى النَّجاة بالهداية التي نالها بمشيئته سبحانه و تعالى .


تخيَّل أن الهداية عبارة عن شعلة ، شعلة تحتاج منك أن تمسك بها دون أن تفلتها ، فغفلة واحدة منك عنها تجاه ملَّذات الدنيا قد تجعلها تضيع منك للأبد ، و نحن بشر قابلون للخطأ و للغفلات ، فإذا ما غفلنا أو أخطأنا فالحل هو صدق الدعاء و الإلتجاء إلى الهادي ، الذي سيهبنا الشعلة من جديد ، ألا تعني الهداية الخروج من الظلمات إلى النور ! ، و الله مخرجنا من ظلمات العصيان و الخطايا إلى نور الهداية و الصلاح ..





تأمل ..

الله رحيم هادي سميع هادي ..

يرحم ضعفنا من عقابه ، فيهدينا إليه ، فنغفل عن هدايته مرة و ندعوه أن أعد لنا هدايتك لنا ، فيهدينا إلى صراطه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه و لا ميل .. 






إلى فتاة النظارات ، صاحبة الشعلة الوضَّاءة :

( شكرًا لك يا عزيزتي ، لقد جعلتني أتأمَّل في حقيقة الهداية ، في حالنا وسط كل هذه الظلمات ، في حاجتنا الشديدة أن نتمسك بشعلة هدايتنا كما تفعلين ، في أننا بأمسِّ الحاجة إلى الخروج إلى النور ، و أننا مقصِّرون جدًا في قراءة " اهدنا الصراط المستقيم " بانتباه أكبر و رجاء أعمق ، شكرًا لك على لفت انتباهي لهذه الشعلة التي أبحث عنها منذ وقت طويل ، هداكِ الله كما كُنتِ سببًا في هدايتي ، و سلامٌ لعينيك الجميلتين )


 





في كتاب لأنك الله يستوقفني قول علي جابر الفيفي في اسم الله الهادي : 

 ( - *قبس من نور*

يبصر من عليائه التائهين، يرى هضاب الضياع وقد التفت من حول أرواحهم، فيشعل لهم في الليل قبسًا من نوره، فيرون به الطريق! ويصلون إلى الجادة.

✿- لا يهديك لأنك فلان ابن فلان، بل لأنه شاء أن يهديك!

-(يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)

فتعرض بإصلاحك قلبك إلى تلك المشيئة الغالية. )


 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Follow Us @techandinv