اليوم هو أول أيام شهر رمضان المبارك لعام 2020 م
و كعادتي أهتمُّ
كثيرًا بالبدايات و النهايات أيضًا بينما أترك لنفسي حرية الغرق في أحداث الوسط ،
أبدو اليوم متأملة أكثر من المعتاد ، أتأمل تقلُّب الأجواء بحيث يصبح الليل حيوي و
الصباح ساكن تمامًا ، أراقب من شرفتنا وجوه العابرين المُتعبة من الصيام كأول يوم
، و أتأمل أول إفطار لرمضان السنة ، أختار ملابسي بعناية عندما أذهب لصلاة
التراويح في المسجد ، رغم أنني سأبقى بعباءتي إلا أنني أخترت قميص بارد حيوي و
مريح ، اخترت لون روج هادئ ، ارتديت حجابي البنفسجي ، و خرجت إلى المسجد مع أخواتي
، أتأمل الشارع الساكن تمامًا ، يتهامسن أخواتي إن كان مصلى النساء مفتوحًا أم
مغلقًا و سنعود أدراجنا ! ، فأدعو برجاء أن يكون مفتوحًا ، و أعود للسير ببطء
أتأمل المحال المغلقة ، الرجال الذاهبون إلى المسجد ، إذان العشاء يرتفع فأعاود
السير بلهفة أكبر ، افتقدت لصوت الإمام ، لوجوه المصليات اللواتي اكتسبت معهن
صداقة دون حديث فقط نظرات و ابتسامات ، و ما إن أصل إلى حارة المصلى ، ازفر براحة
لرؤيتي أطياف النساء من خلف زجاج نافذة على السلالم ، أسارع بخطواتي و أقرأ دعاء
الدخول و أنا أصعد في سلالم المسجد الضيقة ، أخلع حذائي و أضعه في الصندوق ، و قد
ابتسمت بلا معنى لكل من أعرفه و من لا أعرفه ، أتفقَّد من أعرفه منهن ، أبتسم
لطفلة تجلبها جدتها معها كل رمضان عندما رأيتها أول مرة كانت تقريبًا في الثالثة و
الآن هاهي تكاد تبدو في السادسة أو السابعة ، كانت مشاغبة جدًا و قد تذمَّرت
المصليات منها كثيرًا أما الآن فهي تصلِّي بهدوء و إن لم تتخلَّ عن الحركة التي
يتَّصف بها الأطفال ، و هذه امرأة تصلِّي على كرسي لا زالت عقدة حاجبيها كما هي ،
منزعجة جدًا من الأطفال في الخلف ، الأستاذة التي ترتِّب الصفوف تعطي إشارة جديدة
هذه السنة في تنظيم الصف " اجعلوا
الصف مرتخٍ قدر الإمكان دون أن تدعوا فرجة للشيطان " و بالعدني مختصرة "
لا تتداحشوش " ، و بالطبع السبب هو الوقاية من كورونا الذي لم يصلنا _ و
الحمدلله _ و لكن كما يقال : " توخَّ الحذر " ؛ نبدأ الصلاة يقرأ الإمام بصوته المميز و لحنه
الذي لم أسمعه من أحد غيره ، له قراءة مميزة فعلًا ، ينهي العشاء و لا يتأخر
كثيرًا بعد أن تسنَّنَّا لها ، يصلي و لا يطيل ، يتبادل الأئمة ، كلُّ واحد منهم
يشدُّك للخشوع بطريقته ، و سرعان ما ننهي الثمان الركعات ، نقوم لنصلي الوتر ، و
يا إلهي إنه الإمام المسنُّ الذي يقرأ بطريقة محبَّبة جدًا ، صوته كنسمة أو كشيء
يعبر السمع فيرجف الفؤاد بطريقه ! ، قراءته تجعل في المسجد سكون هادئ و كأن المصلُّون
يكتمون أنفاسهم ليصغوا إلى صوته الأليف ، و أنهى الوتر خفيفة كعادته ، أجلس قليلًا
و تلفتني الفتاة التي تصلِّي أمامي ، تبدو في الخامسة عشرة ترتدي نظاراتها ، بحجابها
و عباءتها ، تقف بهدوء لتغادر فتتلاقى نظراتنا نبتسم و نمضي كلٌّ في سبيله فبينما
هي تغادر المسجد ، أذهب لأسلم على المعلمة التي تعلِّم في نفس مكان عملي ، هي فترة
صباحية و فئة كبرى و أنا فترة مسائية فئة صغرى ، لا أعرفها كثيرًا إلا أننا
التقينا في رحلات نظمتها الإدارة و بعض زياراتي للفترة المسائية من قبل ، سلَّمت
عليها و غادرت أرتدي باقي حجابي و لا زالت فتاة النظارات في رأسي ...
كنتُ أفكِّر بها ،
أفكِّر بانتظامها الدائم على الحضور للصلاة في المسجد ، منذ كانت في العاشر
تقريبًا ، تحضر بهدوء و تجلس في الصفوف الأمامية بدون صوت ، تصلِّي بدون حركة
كثيرة كمن هم في عمرها ، بشوشة لكنها ليست فضولية و لا " هدَّارة " ،
تجيب على قدر السؤال ، و تبتسم بهدوء و رزانة ، بين الإذان و الإقامة تفتح المصحف
و تقرأ بصوت خافت ، و عند المغادرة تغادر وحدها بهدوء و خفة تامَّة ..
الذي جعلني أفكِّر
بها كثيرًا هو استمرارها على نفس المنوال كل سنة ، أجيئ و أراها كما هي ، هادئة و
وحيدة و منسجمة جدًا في أجواء الصلاة ، طرقت بالي فكرة عنها تجسِّدها "
مهتدية " !
نعم مهتدية ، فمن هم
في عمرها يكنَّ في قمَّة الطيش ، لو أنها تحضر مع أحد لكنت قلت يجبرها على الحضور
، لكنها تأتي وحيدة و تغادر وحيدة بنفس الخفَّة ، أيُّ هداية هي التي وهبها الله !
أهي دعوة والدتها ؟ ،
أم هو اصطفاء ؟ ، أم أنَّها كيتيمين سورة الكهف و أبواها كانوا صالحين ؟ّ ، أم
أنها تقرأ " إهدنا الصراط المستقيم " بكل انتباه دائمًا ؟
حالها يجعلني أتفكَّر
في حكمه : " و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " ، و أتمعَّن في قوله
: " إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء "
الهداية ليست حصرًا
على نسب و لا على بلاد و لا على فئة ، فمن عدله أن لم يختَّص مؤمنين محدودين
بالهداية ، و برحمته هدى بعض الكافرين لصراطه المستقيم ، الله هو الهادي ...
وقفـة ..
في كل يوم نصلي خمس
صلوات ، نقرأ في كل ركعة منها " إهدنا الصراط المستقيم " ، إذا حسبت عدد
مرات قراءتك لها فستجد أنها 17 عشر مرة في اليوم الواحد فقط !
السؤال هنا : كم مرّة
من المرَّات قرأتها بتمعُّن ، برجاء و بإدراك لما تقرأ ؟!
الله يهدينا دائمًا
دون أن نشعر ، يهديك لتستيقظ على صوت اذان الفجر بدون منبِّه فيؤنسك صوته كشمعة
وسط غسق الليل و وحشته ، يهديك عندما تقرع مسمعك آية مذكِّرة فتتراجع عن نية عصيان
، يهديك لتردد وسط زحمة الحياة " لا إله إلا الله " ، يهدينا و لكننا لا
ننتبه فنحرص على طلب المزيد من هدايته ..
الهداية أمرها عظيم ،
و كثير من الناس يجدها ، و لكن قلَّ من يتنَّبه لها فيداوم على طلبها و المسير مع
شعلتها ، فبينما أحد يجد شعلة هداية وسط عتمة الدنيا فيتركها مفضِّلًا البقاء في
شهوات الدنيا على السير مع شعلة هداية حتى النجاة ، هناك آخر وجد شعلته فحرص على
السير في نورها دون ملل ، ليصل إلى النَّجاة بالهداية التي نالها بمشيئته سبحانه و
تعالى .
تخيَّل أن الهداية
عبارة عن شعلة ، شعلة تحتاج منك أن تمسك بها دون أن تفلتها ، فغفلة واحدة منك عنها
تجاه ملَّذات الدنيا قد تجعلها تضيع منك للأبد ، و نحن بشر قابلون للخطأ و للغفلات
، فإذا ما غفلنا أو أخطأنا فالحل هو صدق الدعاء و الإلتجاء إلى الهادي ، الذي سيهبنا
الشعلة من جديد ، ألا تعني الهداية الخروج من الظلمات إلى النور ! ، و الله مخرجنا
من ظلمات العصيان و الخطايا إلى نور الهداية و الصلاح ..
تأمل ..
الله رحيم هادي سميع
هادي ..
يرحم ضعفنا من عقابه
، فيهدينا إليه ، فنغفل عن هدايته مرة و ندعوه أن أعد لنا هدايتك لنا ، فيهدينا
إلى صراطه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه و لا ميل ..
إلى فتاة النظارات ،
صاحبة الشعلة الوضَّاءة :
( شكرًا لك يا عزيزتي
، لقد جعلتني أتأمَّل في حقيقة الهداية ، في حالنا وسط كل هذه الظلمات ، في حاجتنا
الشديدة أن نتمسك بشعلة هدايتنا كما تفعلين ، في أننا بأمسِّ الحاجة إلى الخروج
إلى النور ، و أننا مقصِّرون جدًا في قراءة " اهدنا الصراط المستقيم "
بانتباه أكبر و رجاء أعمق ، شكرًا لك على لفت انتباهي لهذه الشعلة التي أبحث عنها
منذ وقت طويل ، هداكِ الله كما كُنتِ سببًا في هدايتي ، و سلامٌ لعينيك الجميلتين )
في كتاب لأنك الله يستوقفني قول علي جابر الفيفي في اسم الله الهادي :
( - *قبس من نور*
يبصر من عليائه التائهين، يرى هضاب الضياع وقد التفت من حول أرواحهم، فيشعل لهم في الليل قبسًا من نوره، فيرون به الطريق! ويصلون إلى الجادة.
✿- لا يهديك لأنك فلان ابن فلان، بل لأنه شاء أن يهديك!
-(يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)
فتعرض بإصلاحك قلبك إلى تلك المشيئة الغالية. )
يبصر من عليائه التائهين، يرى هضاب الضياع وقد التفت من حول أرواحهم، فيشعل لهم في الليل قبسًا من نوره، فيرون به الطريق! ويصلون إلى الجادة.
✿- لا يهديك لأنك فلان ابن فلان، بل لأنه شاء أن يهديك!
-(يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)
فتعرض بإصلاحك قلبك إلى تلك المشيئة الغالية. )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق