من المؤكَّد أنك قد سبق و جرَّبت قراءة كتاب استهلكك على آخرك ، استنزف مشاعرك و جعلك تقول بنفس مقطوع : متى ينتهي !
لا يُشترط أن تكون
الكتب الإستنزافية سيئة ، و لا أن تكون لغتها صعبة أو أن تكون أحداثها مبتذلة ، لا
على العكس تمامًا ، أحيانًا تكون من أفضل ما قرأت سوى أن عيبها الوحيد أنها
مستنزِفة .
الكتب
الإستنزافية :
هي الكتب التي تحتوي
أفكار مذهلة ، و مشاعر كامنة ، و تُسرَد بإسهاب دقيق جذَّاب ، و هي طويلة جدًا
غالبًا .
الأفكار المذهلة لا
تُشترط أن تكون جديدة و لا قديمة ، يمكن أن تكون أيَّ فكرة عادية ، و لكن المنظور
الذي شُرِحت به ، و الطريقة التي تعرضها تجعلك تدخل في حالة ذهول كبير عن أيَّ
أفكار غيرها ، و يستمر ذهولك على حسب نسبة استنزاف الكتاب نفسه ، فربما ينتهي
ذهولك ساعة انتهائك منه أو ربما تمتد معك لأيام أو فترات .
و أما المشاعر
الكامنة فالسرُّ هو أن الكاتب عندما ترجمها إلى كلمات كان صادقًا جدًا ، أو على
الأقل شَحَن نفسه بتلك المشاعر بكل ما لديه من قوَّة كي يُخرج نصًا يراه جديرًا
بما أراد إيصاله للقرَّاء ، و بالتالي فإن القارئ عندما يقرأ تلك النصوص يغرق بها
بل الأحرى أنه يسقط في دوَّامتها ، عند الحبِّ فجأة يشعر بصعقة حب لحبٍّ ربما كان قد
بدأ يخمد ، عند الحزن يشعر بنوبة انهيار مع أن لا شيء محدد يدعوه إليه ، عند الغضب
تستعر أعصابه بحثًا عن شيء يغضب لأجله مع ملحوظة صغيرة حشرها الكاتب ( الإستحواذي
) بين الكلمات تقول : أنا على حق !
بالنسبة للسرد
الإستنزافي فهو ذاك الذي يسرد الحوارات و يحشر بينها أفكار البطل و أحيانًا أكثر
من بطل ، يصف الأشياء ببراعة و دقة مع اسهاب غير ممل غالبًا ، يسرد محتوى الكتاب
بعمق عميق ، ببساطة يستحوذ على رأسك و فكرك ، تتسمَّر أمام الكلمات غير قادر على
سحب عينيك منها لحظة واحدة ، و هذا ليس سحرًا جنونيًا و لكنَّه عبارة عن مادة
موضوعة بكل قدرات هذا الكاتب ، قدراته الوصفية و السردية و الخيالية ، و فجأة تجد
نفسك في عالمه هو ، تقرأ من منظاره هو ، تمامًا كما لو أنه وضع عدسته أمام الجميع
و قال : " هيا احكموا " ، و لكن الحقيقة هي أنك خلال القراءة إلى أن
تنتهي سترى أنك موافق غالبًا لآراء الكاتب ، على الأقل راضي بطريقة قيادته للأحداث
.
أما عن حجم هذه الكتب
فهي طويلة جدًا ، أولًا لأنها مسرودة بإسهاب ، و ثانيًا لأنها منبسطة كل جوانبها ،
تكاد تشمل كل الأشياء ابتداء من الدين إلى اختيار الثياب بمنظار مهتم بالأناقة ! ،
و ثالثًا طريقة السرد رغم دقتها إلا أنها مكرَّرة و ملحَّة بشكل يدعو للضيق ( و
لكنك تستمر بالطبع فأنت ذاهل بالفكرة غارق بالسرد ! ) ، و هذا التكرار لا يكون
واضحًا جدًا و إلا كان الأمر مملًا بشكل يجعل ترك القراءة أسهل ، إنما يكون
باستعادة ذكرى موقف سَبَقَ و أن قرأته على شكل حاضر ، أو استعادة فكرة أحد عناصر
الكتاب بشمولية أكبر ، و أحيانًا تتكرَّر الأشياء التي لا ينتبه القارئ إلى
تكرارها أثناء قراءته الأولى ، و هي مشاعر الحب و الكراهية و الحزن و الغيرة و
الإفتتان و هي من أكثر الأشياء التي تُكرَّر على حساب وصف الأشياء بدقة ، فيقرأ
القارئ بعين أشد تقديرًا لحال العنصر الوهمي هذا ، يقرأ و يمتلئ هو بتلك المشاعر ،
تمامًا كما يحدث عندما تشرب عصيرًا فيبقى أثره في فمك حتى تشرب الماء !
هل
تتذكَّر ( الكاتب الإستحواذي ) الذي ذكرته في الأعلى ؟
حسنًا ، ليس شرطًا أن
يكن قلمه ذا قرون حادَّة و عينيه لامعتين بالشر ، أحيانًا يكتب و هو مُثقل بشيء
يستفرغه في ذاك النص الإستنزافي ، و أحيانًا أخرى يكتب في قمة فراغه ، رأسه خالية
من الأفكار و فقط يهتمُّ بملء الأوراق واحدة تلو الأخرى ، يخنق الأحداث خنقًا ،
يجعل رأسك كقنبلة موقوتة في وجه أي ضغط ، هو فارغ تمامًا و لديه متَّسع من الفراغ
كي يعقِّد الأشياء كلها ثم يبدأ بفكِّ العُقد واحدة واحدة ببطء قد يكون سببًا في
اصابتك بانهيار عصبي ، و بالطَّبع لا يهم كيف سيفكُّها كلها ، و بغض النظر عن
منطقية ما يفعل ، ستجد نفسك تقرأ و تقرأ ، بأعصاب تكاد تتمزَّق ، برأس غارق تمامًا
في دوامة الأفكار التي تسلَّلت إلى رأسك مما قرأت ، و ستشعر و كأنك في عنق الزجاجة
تريد فقط النهاية كي تهدأ ، و لكن المصيبة الكبرى عندما تنتهي و لا زالت رأسك في
الدوامة نفسها ، و أعصابك تالفة جدًا ، و ضيق شديد يحكم خناقه على عنقك ، أسئلة
كثيرة تدور ، إجابات مبعثرة لأسئلة لا تعرفها ، ذكريات غائمة ، و أيام تقوم نافضة
عن جنباتها غبار النسيان ، على الأرجح أنت الآن و بعد انتهائك من القراءة تحاول
التخلُّص من آثارها كمن غرق لفترة ثم نجا و قام يستفرغ ما ابتلعه .
برأيي تَجَنُّب
الكتب الإستنزافية أولوية لضمان نفسك .
و لكن كيف نعرف
الكتب الإستنزافية ؟
حسنًا ليست لديَّ أي
طريقة محدَّدة أعرف بها أن الكتاب استنزافي أم لا ، و لكنني أقوم بحركة بسيطة جدًا
لا تكون صحيحة دائمًا ، و لكني أعتبرها كردِّ فعل حَذِر ، و هي أنني عندما أقرأ
كتابًا و أكتشف أنه استنزافي فإنه لا يكون لي أي سبيل سوى متابعة قراءته ، و لكن
عند انتهائي منه أُحرِّم باقي كتب هذا الكاتب ، و أتجنَّبها بكل جهدي ، و كما ترون
فالحركة هذه ليست سوى حركة هجومية للهجوم القادم ! ، و لا أملك حتى الآن شيئًا
يجعلني أعرف نوعية الكتاب قبل بدء قراءته ، فلا يمكن أن يكتب الكاتب : هذا الكتاب
يستنزفك ، احذر !
على الأقل لم يفعلها
أحد من قبل ، و لكن بدون شك إن قمت يومًا بكتابة شيء استنزافي فسأتذكَّر أن أكتب
هذه العبارة فلا أحتمل أن أكن سببًا في غرق قارئيَّ .
باختصار الكتب
الإستنزافية جيدة أم سيئة ؟
أوه _ يا عزيزي _
أتظنُّ أن لي التصريح بالحكم ، كلا لا أظن ، و لكن لي وجهة نظر شخصية فيها و هي أن
جودة هذه الكتب لا تكون كبيرة دائمًا ، و السبب بالطبع لا يعود لمحتوى هذه الكتب ،
فهي تتفاوت فيما بينها من حيث الجودة ، فقد يكتب الكاتب كتابه بشكل مُستنزِف و
لكنه يحتوي على أشياء جيِّدة و أفكار ممتازة ، و قد يكتبها الكاتب بشكل استنزافي
بدون أن يهتم لكمية ما سيجود به على القارئ ، إذًا كيف قلتُ بأن جودتها لا تكون
كبيرة ؟
جودتها لا تكون كبيرة
، لأن القارئ مُستنزَف الآن بعد القراءة ، ربما غرق في فوائد جمَّة و أشياء ممتازة
، و لكنه عندما ينتهي سيخرج بأقل بكثير مما كان يجب له أن يتحصَّله من هذه القراءة
.
ملحوظة صغيرة : لاحظ
انني أتحدَّث عن الجودة و ليس عن الفائدة ، لأنني مع القول بأننا لا يجب أن نفعل كل شيء لأجل الفائدة ، و القراءة بشكل خاص يجب أن تكون جيِّدة لعقولنا فلا تؤذيها
، بغض النظر من أنها مفيدة أو لا .
إذًا هناك الكثير من
الكتب الإستنزافية التي ليس مكتوب عليها ( تحذير ) ، لذا على القارئ أن يقع مرَّات
كثيرة في هذه الهوَّة و يخرج منهكًا مُستهلكًا ، و الا فإنه سيكن حذرًا جدًا فيضع
قائمة لها و يتجنَّب مؤلفيها كما فعلتُ ، و لكن بهذه الحركة سيضيع كثير من الكتب
التي قد لا تكون مُستنزِفة من تأليف هذا المؤلف ، و هكذا بين نارين يكون القارئ
المُنهك ، نار احتراقه في القراءة و نار تجمُّده بدونها ، و يبدأ رحلة البحث عن
كتب بسيطة تمرُّ بسلام بدون حروب و لا معارك نفسية طاحنة ...
في رأيي الكتب
الروسية هي الأكثر بساطة ، غير أنني لا أعدك بجودة هائلة أو أفكار مذهلة ، كل ما
في الأمر أنها ستمرُّ عليك بسلام ، ستبتسم بين جنبات صفحاتها ، و ستتشوَّق مع
الأحداث بيد أنك لن تتحرق شوقًا ، و لكنها برأيي الأكثر سلامًا ، و لن تقلق كثيرًا
حتى عندما تحكي حكايا المعارك بين السوفييت و الألمان ، ستمضي بك الأحداث بهدوء و
سلام إلى شاطئك الآخر .
بالطبع كل هذا من
وجهة نظري ، و لا يعني هذا انه لا وجود للكتب المسالمة غيرها ، بل موجودة و ربما
أكثر جودة من هذه و لكنني لا أستطيع حصرها تحت نطاق معيَّن ، لذا رأيت أن تجربتي
مع المؤلفين الروس أكثر هدوءًا و سلام .
بعد انتهائي من قراءة
سلسلة الشفق لستيفاني ماير حتى الجزء الرابع " بزوغ الفجر " و قد أجَّلت
الجزء الخامس الذي هو فقط سرد للأحداث نفسها و لكن من وجهة نظر إدوارد كولن ،
أجَّلته كي أراجع الإمتحان لسورة آل عمران الذي كان موعده اليوم ، و ها أنا أنتهي
من الإمتحان بحمد الله و قوَّته مع خطأ نسيان واحد فقط ، و عودة لسلسلة الشفق فلم
أبدأ بعد بقراءة الجزء الخامس ، أحتاج فسحة صغيرة لترتيب أفكاري ، و من المؤكَّد
بأن جزء واحد أخير هو مجرد تكرار أحداث لن يكون مُنهِكًا كما الأربعة الماضية ،
على كلٍّ سأوثِّق مراجعة جيِّدة للكتاب بإذن الله في تدوينة أخرى فهذه بدأت تطول ،
و ستصبح بمراجعة للكتاب طويلة و مملة .😅
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق