18‏/6‏/2020

# رسائل لن تصل

ليلة بنفسجية


عزيزي يا صاحب الركن المضيء : 

أكتب لك من على السرير ، بعد ان استسلم جهاز اللاب توب لإغفاءة و كفَّ عن المصارعة للبقاء ، الكهرباء مقطوعة لذا الجو رطب و حار ، نافذة الغرفة مفتوحة و بها نتوسَّل بعض النسمات التي قد تلطِّف الجو قليلًا ، ضوء خافت من الأضواء الاقتصادية مشغَّل عبر الألواح الشمسية ، و لأن أخي عندما نسَّقها أول مرة و نظَّمها كان الجو باردًا أو على الأقل لطيف فنسي أن يوصل مروحة اقتصادية أيضًا تلطِّف الجو ، على أيَّة حال لا مشكلة ما دمتُ أشمُّ رائحة البحر و أستنشق هذا الهواء المألوف ، لا يهمُّني أي شيء آخر فلا يزعجك حديثي الطويل عن الحر هنا .

أما عني فإن مشاعري منهكة و داخلي خامد و لكن بشكل مُرهق ، الخط الملتهب وسط صدري غائر ، و قلبي ينبض بصوت مرتفع حتى بدأت رتابة نبضاته تشعرني بالضجر ، الجزء الثالث من سلسلة " الشفق لستيفاني ماير " مؤذي و استنزافي بدرجة فضيعة ، عاث بالضياع المنتشر بداخلي فوضى ، و حرَّض حبَّات الوجع على الثوران ، و ها أنا أحاول تهدئة هذه الآثار بالكتابة إليك ، كما اعتدتُ دائمًا أن لا أشبه بيلا مهما شابهتني ، فأنا أصرُّ على تذكُّرك في كل حين و لا احتاج لتحريم اسمك على الألسنة مهما كان هذا مؤذيًا ، و لا أحتاج رفض استعادة الذكريات بشكل نهائي كما فَعَلَت ، إنني أحافظ على ذكرياتنا و كأنك قد رحلت قسرًا ، و بالتالي لا أنتظرك و لكنني أعيش على ذكراك ، لقد علمت مدى خطورة الإنسانية ، و بطريقة ما أشعر أنني قد اختبرت بشاعة الإختيار ، على الأقل من قراءة التجارب ، و لهذا لن أسمح بمزيد من الوجع ،لن أرضَ بكوم نكد يغلِّف قلبي بعد اللقاء مهما ابتعد ، و لن أسمح بعد آخر تجربة استنزاف أن تتكرَّر ، و إن كان استنزافًا مختلفًا جدًا ...
أحبُّ أن أجعلك شيئًا ثابتًا لا يتغيَّر كخلود إدوارد ، أن أبقيك حيًا في ذاكرتي و في نفسي أيضًا ، و هذا يجعلني حتى أشحن نفسي بك كلما ابتعدتَ أكثر ، أو بالشيء الوحيد الذي اشتركت به مع بيلا و هو سماع صوتك بداخلي كواقع لا مفرَّ منه ، و لكن بطريقة أكثر اتزانًا فبالنهاية لم أمتلك خصائص الحرية كاملة ، فكنتُ أضع عند كل حدٍ شارة بداية بغضِّ النظر كليًا عن مدى سخافتها ، و كنتُ أقول دائمًا عند كل طيف حدٍ فاصل : " متجدِّدٌ ليس تبلى " و أُجدِّدُك !

 أجدِّدك بقلبي و بداخلي بشكل عام ، فأجلس بهدوء و أسترجعك ، و أنفض أي غبار قد يكون تسرَّب إليك من إحدى نوبات يأسي و بؤسي ، أُغني أغانينا بصوتٍ متحشرج بمطبَّات الفقد ، و أتنفَّس بصعوبة حتى أنتهي ، و أكتب لك و أكتب كل ما أعرفه عنك و عن حبِّك و عن تفاصيلنا سديمية الجمال ، و أستمرُّ على نفس طريقنا بشارة أخرى ، أتناسى فراغ كفي من كفك ، أتماشى مع فكرة طيفك الذي يسير بجانبي ، و بشكل ما أنا مرتاحة تمامًا بهذه الصحبة السرابية ، بهذه الرفقة الوهمية ، أنا ماضية بكل اتزان .
أتعلم ؟!

بعد كل تلك الشارات البلهاء و كل البدايات العشوائية تلك ، نسيت كيف بدأتُك !

نسيت كيف عرفتك ! ، آه لا أقصد معرفتك أنت فلقد عرفتك منذ البعيد ، أقصد منذ عرفتنا " نحن " ، منذ فقهت الوجود السحري لنا ، نسيت طريقة وجودنا حتى بتُّ غير متأكدة من أنني سأستطيع التماشي مع طريقتها ثانية ، و هذا ربما أكثر ما يؤذيني ، و لكن على أية حال يا صغيري أنت بعيد بعيد كثيرًا ليس لثمانية أشهر كما فعل إدوارد مع بيلا ، لقد مرَّ على غيابك الكثير من الأعوام المديدة ، دعني أعدُّها .. آه اثنان و ثلاثون شهرًا بالتمام ، و قريبًا و بعد أربعة أشهر أخرى ستصل لختام عامك الثالث بالغياب ، عدد مميز ، أليس كذلك ؟!

دعنا من هذا الآن ، كنتُ وعدتُ نفسي عندما قرَّرتُ أن أبقى على حبِّك مستمرة ، و على إحيائك بداخلي مصرَّة ، بأن لا أجعل حبي لك يستنزفني كما فعل منذ أول غياب حتى الرابع من تموز من العام الماضي ، توصَّلتُ إلى حل عادل لم أكن لأحظى بالإتزان الذي اتخذته به إلا عندما نفَّذته ، كان الحل يقتضي أن أحييك بداخلي دون أن يسيطر الركن _ الذي سبق و انطفأ _ على باقي المسافة فأنطفئ ، دعني أوضِّح لك لقد قرَّرت أن أبقي عليك كي أبقى ، و أن أحصرك بداخلي فلا تنتشر و تنهشني على آخري فلا أعود أنا ! ، كان حلًّا عادلًا جدًا و إن كان أنانيًا بحتًا أيضًا ، و لا تسألني كيف اجتمع العدل بالأنانية ، لأنني عندما كنتُ عادلة فقد فعلتها تجاه نفسي فقط ، و عندما كنتُ أنانية فقد كنتُ مع نفسي ضدَّك ، صدِّقني إن لم أتخذ ذلك الحل العادل لما كنتُ هنا ، و ما ضللتُ على خطِّ سير وهمي ، و ما كنتُ لأستمر على المضي رغم كل التعرُّج الظروفي تحتي ، و لكنتُ قد سقطتُ في نوبة من نوبات ظلم بيلا المبتذل لجايكوب ، كنتُ لأبقى مراهقة مرهقة حتى وقت طويل الأمد ، و لم أكن بأية حال أعيش شبه السرمدية معك كما لم تفعل بيلا خلال ثلاثة أجزاء كاملة ، و لقد آمنتُ بحسن قراري و صدق رأيي و عدله ، و بكل الأحوال لم تكن هنا لأظلمك و لم تعد هنا كي أحافظ على إيثارك بإتزاني ، و في النهاية كنتُ قد تفوَّقتُ في أن أكون أنا و بعد أن كنتُ معلَّقة بين أن أكون و لا أكون ، و ها أنا ذا أكون و لا يهمني كيف أكون ، و لا أين سأكون ، الأهم من كليهما من سأكون ، و يسعدني أنني فعلتها و كنتُ أنا بالرغم من كل شيء ، و بشكل ما فإنني فخورة بهذا النصر على فوضى الحب الذي لم أعد صالحة لقراءتها و لم أعد قوية كفاية على مشاهدتها ، ببساطة آثرتُ الانسحاب بقلبي و عقلي !

و تذكَّر أن الانسحاب ليس خسارة دائمًا ، بل تضحية في سبيل فرصة أفضل .

و لا أخفيك يا طفلي أن الجزء الذي يجعلني فخورة هو أنني فعلتها وحدي ، بدون أن يمسك بيدي أحد و يعبر بي ، تغلَّبتُ على كل تلك الوساوس و كل تلك العراقيل و الأهم فزتُ على تلك الأوهام المغلَّفة بالأمل السقيم ، دون أي مساعدة حسيَّة كنتُ أمضي بعرجي و بسقم قلبي و بهشاشتي ، و أخمدتُك بداخلي لبعض الوقت كي لا تشغلني ، فقد كنتُ أعرف بأنك وقتها ما عدتَ حبًا بل كنتَ مرضًا مزمنًا ، و لهذا كتبت .
وحدها الأوراق استقبلت ثقلي بكل ترحاب ، ترجَمَت فوضاي على شكل كلمات مهما بدت يائسة فإن قوَّتها الكامنة لم تخفَ على أحد ، تسلَّحتُ برؤيا البنفسج و شكل الخزامى و بالرغم من تفاهة الفكرة بالواقع ، إلا بدت لي و كأنها حقيقة صارمة بل و عشتها بتفاصيلها بكل جِد ، و فهمتُ من تجربتها أن التفاهة ليست سيئة دائمًا ، و تذكَّرتُ أهمية الأفكار الصغيرة التي اتَّخذ بها هيركيول بوارو منهجًا ، و آمنتُ بأن الأشياء لا تُقاس بحجمها و لا بواقعيتها أو اسطوريتها ، بل تُقاس بحاجتنا إليها ، فقد احتجتُ مرَّات عديدة أن أعش وهمًا و عشته بكل سلام و بالطبع مع غضِّ النظر عن آثار ذلك العيش ، و مرَّة احتجتُ أن أعش اسطورة تفرُّدي و فعلتها و إن كان قد انصهر الكثير مني بها ، و قديمًا قديمًا احتجتُ أن أعش جنون كفاحي و عشته رغم أنني بكيت كثيرًا على خساراتي الفادحة به ، و في يوم من الأيام و قبل اثنان و ثلاثون شهرًا بالتمام احتجتُ أن أعيش سلامك و جمال رفقتك ، و ذهولٌ بسحنتك و فعلتُ و لن أكذب للحظة واحدة إن قلتُ بأنك كنتَ أكثر حياواتي اسطورية ، كنتَ تمامًا كإدوارد بأسطورته ، بذاك الهدوء الذي يشبه صفحة بحر يخفي الكثير ، بتلك الملامح المدمِّرة لثقة الآخرين ، عينين ناعستين لا تشيان بظمئك للدماء بل كانتا سببًا في ظمئ الناظرين ، أوه عزيزي أحبُّ أن تكون أسطورة أكثر من حقيقة ، هذا يجعل في متناولي أعذار كافية لغيابك اللامبرَّر ، و احذر أن يصيبك الغرور يا صغيري ، أخشى أن تفقد بساطتك إن استمرَّيت بوصفك ، على كلٍّ أكاد أصل إلى الصفحة الخامسة في هذه الرسالة التي ليست مجدية أبدًا ، لذا اعذرني فأنا لا أملك طوابع بريد كفاية لإرسالها ، سأضعها في صندوق لن يصلك ، و هذا على الأقل يزيح شعور الإرتباك من أن أكون بالغتُ بالحديث إليك ، وداعًا الآن .
و لا تنسَ لا زلتَ بحوزتي حتى الآن .


أمُّك التي لم تلدك
آس .


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Follow Us @techandinv