استسلمت و قرأت رواية
" صاحب الظلِّ الطويل " بصيغة pdf ، لم اعد استطيع الإنتظار
و فجأة وجدت نفسي أقوم بتنزيل الكتاب و أقرأه بشغف ليلة البارحة ، لم يتغيَّر أي
شيء عن نظرتي الأولى ، و لكن هناك أشياء كثيرة أضيفت ، في البداية تفاجأت كثيرًا
باسم جيروشا ، و تساءلت أيمكن أن اسم جودي ليس موجودًا إلا في الكرتون ، و لكنني
فرحت حين وضَّحت جودي بأن اسمها في سجل الأسماء فقط جيروشا أما ما يناديها به
الجميع فجودي ، و ضحكت عندما علَّقت على اسم جودي بأنه يوحي بفتاة ذات عينين
زرقاوين مدلَّلة وسط العائلة و تسرح و تمرح بدون اكتراث ، و مما أسعدني في الرواية
هو أن جودي لم تتذمَّر من لون شعرها الأحمر كما كانت تفعل في الكرتون ، و كنتُ
أتأزَّم لها ، على أيَّة حال صاحب الظل الطويل لا زال حلمي ، صاحب الظل الطويل من
أجمل ما قرأت .
جين أبدعت في نقل
جودي من لقيطة في ميتم نفد وقتها فيه إلى متخرِّجة من الكليَّة و سيدة مجتمع قادرة
على التأثير ، ببطء و سلاسة لن يشعر بها المشاهد أو القارئ ، و لكنك ستقع على
حقيقة أن جودي أبوت لم تعد تلك اللقيطة التي تغسل وجوه مجموعة من الأطفال كل صباح
، و تخرج معهم إلى فناء الميتم فتسلِّيهم برسم صورة للآنسة ليبيت على باب مخزن
الحطب ، لم تعد جودي مجبرة على خياطة ملابس الصغار ، و لا غسيل الصحون الكثيرة في
المطبخ فقط لتبقى في الميتم بعد وصولها لسنِّ 17 ، جودي أصبحت تعرف روايات شكسبير
و تعرف مايكل آنجلو و تعرف أيضًا موريس ماترلينك و الكثير من الكتب التي حتى أنا
لم أعرفها أو لم أقرأها بعد ، جودي أبوت بدأت من ميتم و انتهت بوجود ، وجود في قلب
كل متواجد ، و لم تعد شخصية في كرتون كان رواية ، بل أصبحت كائن يزخر بالإبتسام
بوجه كل الصعوبات ، يقطن في قلب كل متفائل .
علَّمتني جودي دائمًا
أن البداية قد تكون مؤلمة للغاية ، و قد لا تكون هناك بداية ، و في الوسط ذكَّرتني
بالمحارب الشجاع الذي رغم إصابة قدميه بادئ ذي بدء إلا أنه قام مستندًا على قدمين
مستعارتين كانتا لصاحب الظلِّ الطويل ، جودي تقول " بدأت أشعر ان العالم هو
بيتي ، و كأنني أنتمي حقًّا إليه و ليس ازحف على سطحه فحسب " ، لم ترضَ جودي
بأن تكون زاحفة عليه فقط ، دبَّت بحركتها عليه ، عوَّضت عن كل تلك الظروف ، حتى
أغرقتني في غيرة تامة منها ، غيرة عمياء ، و تمنَّيت وقتها و قوَّتها ، و حبها
الخالص لصاحب الظل الطويل و جوانب حياتها التي لم تتشبَّع بغير الفائدة ، و أولًا
و أخيرًا دائمًا حلمتُ بصاحب الظل الطويل ، على هيئة صامت يقرأ لك بكل شغف ، يجلس
على مكتبه الفارِه و يفتح مغلَّف رسائلك بحرص ، يقرأ بانسجام تام و اهتمام
بالتفاصيل ، ثم يعيد الرسالة و يضعها داخل صندوق خاص و يحفظه في الدرج الأعلى كي
يعود له في أي وقت اشتاق به لك ، جودي وصلت في الأدراك مرحلة تقبُّل انقسامات
الأشياء و ليس العمل على رفضها بالأدلة القاطعة ، جودي شخصية صقلتها الظروف لتصبح
بتلك المناعة الباهرة من كل الإسقاطات التي واجهتها ، أرهبتني عندما رفضت الذهاب
للمزرعة قبل بدئ العام الأخير و ذهبت مع آل مكبرايد إلى المخيم ، أدهشتني عندما
وضعت كتابها في سلَّة المهملات بكل رضا و سلام ، كانت متصالحة مع نفسها كثيرًا
للحد الذي لم تشعر مرة بتأنيب الضمير على ما يبدو ، هي كانت قادرة على قول رأيها
بكل صراحة و صدق ، ثم تغييره إن لزم الأمر و بكل بساطة و ثقة أيضًا ، جودي مثال
المرأة الناضجة رغم كل الظروف .
أبكتني جودي مرَّة
على ما أظنُّ في الماضي ، و أحرقت حلقي بالعبرة مرَّات كثيرة ثم اطفأتها بأسلوبها
المازح و كأن شيئًا لم يكن ، و جودي بالأمس ذكَّرتني بكل ذلك ، و أضحكتني مرَّات
كثيرة أثناء القراءة لها ، جودي قادرة على التأثير و هي شخصية في كتاب ، فما بالك
بها كشخصية تعيش في أرواح أولئك المناضلات في درب الحياة ، جودي منهج حياة أكثر من
كونها تجربة عابرة فيها ، و صاحب الظلِّ الطويل العنصر الذي لم يفعل شيئًا أكثر من
فتح الباب أمام جودي أبوت لتنطلق نحو الحياة ، بعد أن وضع في رقبتها شريحة حب
تنبِّؤه بكل المستجدَّات ، كان جيرفس و لا يزال رجل كثير من الفتيات ، و لم يكن
رجلي جيرفس ، كان رجلي المفضَّل صاحب الظلِّ الطويل ، الذي لو أردته أن يكون
فسيكون صاحب الظل الطويل إلى الأبد و لن يعود جيرفس مرَّة .
و لو أردت قبلة حياة
فسأبغيها على صيغة صاحب الظلِّ الطويل حين قال : صغيرتي الحبيبة جودي .
يمكنني أن أصبح جودي
وقتها أيضًا ، فتبديله بإسمي سيجعله مبتذلًا جدًا ، و رغبة مني بالإعتراف
بانقسامات الأشياء و عدم محاولة دمجها و تركيبها حسب ما أرى ، فسيكون اسمي جودي
وقتها و لا مانع عند اسمي بذلك ! ، ألم أكن دومًا أسماء بحيث يمكنني أن أصبح أيَّ
اسم على لائحة الأسماء ؟
على أيَّة حال ، و
بعد قراءة الرواية و من قبل مشاهدة المسلسل الكرتوني مئات المرات ، أدرك أن جودي
صغيرة تعيش بداخلي ، و لكنها تنتظر صاحب الظل الطويل كي يفتح لها نافذة حياة نحو
القلم و الكتابة ، و الإدراك أيضًا لفوضى الوجود ، و أدرك من ناحية أخرى بأن جودي
أصابتني دومًا في مقتل من الغبطة ، حتى أنني تمنَّيت و أنا صغيرة أن أكون هي نسخة
طبق الأصل ، و لكنني أدركت بأن هذا مستحيل و أن حريَّة جودي كانت ذات ثمن غالٍ
جدًا ، و على أيَّة حال فهي قد دفعته بكل كرم و بساطة ، و آمنت بأنَّ حريتها غالية
على الكثير أمثال جوليا و الذئاب كما في " أخضر قاتم " ، جودي كانت
جديرة بالوجود لتوجد ، قادرة على الحياة و فعلت .
تقول جودي بأنها قد
وجدت السعادة و هي " أن تعيش اللحظة فقط " ، قالت هذا لصاحب الظل الطويل
إلا أنه لم يكن كافيًا القول فقط ، كانت ذات مساحة فكرية فارغة و مُعدَّة للملء
بطبيعتها المحبَّة للمعرفة ، و عندما بدأت تتوسع في عرض أفكارها بدوريَّة على صاحب
الظل الطويل ، كان هذا بدون شك يخدم ادراكها بحقيقة الأشياء و طبيعة انقسامها ، و
هوية صاحب الظل الطويل التي بقت غامضة عنها حتى الوقت المناسب كانت ممتازة ، فلو
أن صاحب الظل الطويل كان قد كشف عن هويته منذ البداية لم تكن لتصل جودي إلى تلك
الحالة من الإدراك و النضج و الرضا التام عن ما أدركته طوال حياتها ، و لم تكن
لتصل إلى ذلك الإرتواء من صدق الحب إلا عندما ضحك جيرفس و رفع يده قائلًا : صغيرتي
الحبيبة جودي ، ألم تعرفي أنني أنا صاحب الظل !
كيف يمكن لجودي ألا
تكون مثالًا لشرح أن الحياة لا تتوقف على بداية ، و أن الوجود لا ينتهي لأجل وحدة
قائلة ، إن جودي برأيي محظوظة كثيرًا ، للحد الذي كانت فيه امرأة حرة ، تستطيع أن
ترفض فيها أمر من يعولها من خلف حجاب ، امرأة قوية كي تقدر على تنفيس غضبها برسالة
و إرساله إلى من يجب أن يتحمَّله ، ثم بكل قوة أيضًا تعتذر عن ثورتها التي ظنَّت
أن اللباقة لا تحيِّيه مع تمسُّكها بقرارها و رأيها ، جودي مربكة و قد فعلت معي
هذا ، فأسكتت كل تلك الأعذار الواهية التي خبَّأتُها لأي غضب قادم تجاه نفسي ،
داست جودي على جرح وحدتي ، جعلتني أتقلَّب في فراش الغبطة من صاحب الظل الطويل
صاحبها الأكيد ، في النهاية قَرَأت أكثر مني ، و ذكرت اقتباسات من كتب حتى لم أسمع
بها ، و الأهم أنها نجحت دائمًا مع كل إخفاق لها ، بإصرارها و جهدها نَجَحَت ، و
فشلتُ دائمًا مع الأسف .
كانت جودي تمتلك تلك
الأوقات الهادئة التي تكتب بها من مكتبها أمام النافذة ، تكتب لصاحب الظل الطويل بحب
خالص ، لديها ذلك الصفاء الذي يمكنها به توجيه الحب النقي لصاحب الظل الطويل ، حب
يكاد يكون كاملًا حيث لم يتأثر بعصبيتها المعهودة ، و لم يتأذَّى بعدم حبها لآل
بندلتن ، كانت محظوظة بصاحب الظل الطويل بشكل متميِّز ، و كنتُ محظوظة بعائلة
كاملة ، كانت تحبُّه من قبل أن تعرفه ، و كنتُ أحبهم منذ عرفتهم ، كان حبها أكثر
وضوحًا ، و حبي أكثر تشويشًا و ضجة ، وقتها كان أكثر ازدحامًا بالعلم و الأدب ، و
كان وقتي أكثر ازدحامًا بالحياة الاجتماعية المليئة بالضجة و الكثير من الأمور
الرسمية المُضيعة للوقت ، جودي لم تنسجم مع طبيعة العيش في قصر آل بندلتن و السبب
يعود بالطبع إلى جو حياة الضجة الاجتماعية هناك ، و التي لم تعشها من قبل ، و بالتالي
لم تتقبَّلها خصوصًا و أنها عندما خرجت من الميتم إلى الكلية ازداد وقتها ثراءًا و
أصبح حافلًا بالجدية أكثر ، جودي كانت واثقة بقلمها ، و رمت الكثير من القصص في
سلَّة المهملات برضا ، و أحرقت مرة كتاب ، لم تكن تُحطِّم نفسها بقدر ما كانت تثق
بقلمها ، و تثق بأنها قادرة على كتابة شيء أفضل و بطريقة أنضج كما نجحت في المرة
الأخيرة ، كان لديها المتسع من الوقت و الفكر لتكتب و ترضى ثم ترمي فتهدأ ، و من
ثم تبدأ من جديد بقوَّة أكبر و بثقة أعلى .
بعد كل هذا الحديث الكثير
عن صاحب الظل الطويل ، أظنُّ أن ندمي من عدم شراء النسخة الورقية زاد ، و أظنُّ أن
ندمي من قراءة الرواية أوَّل مرة عبر شاشة أمر مخزٍ حقًا ، و لكن لا بأس ، لا بأس
سأفعل كما تقول جودي ، علي أن أعش اللحظة فقط ، سيكفيني هذا من رضا .
عزيزي يا صاحب الظل الطويل خاصتي
أين أنت ، لقد تأخَّرت كثيرًا في الوصول إليَّ ، إنني في الثامنة عشر و
بعد شهرين سأكون في التاسعة عشرة ، صِل سريعًا ، الوقت لا ينتظر أحدًا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق