7‏/6‏/2020

# رسائل لن تصل # كتب

صاحب الظلِّ الطويل يأسرني كل مرَّة كأوَّل مرة


استسلمت و قرأت رواية " صاحب الظلِّ الطويل " بصيغة pdf ، لم اعد استطيع الإنتظار و فجأة وجدت نفسي أقوم بتنزيل الكتاب و أقرأه بشغف ليلة البارحة ، لم يتغيَّر أي شيء عن نظرتي الأولى ، و لكن هناك أشياء كثيرة أضيفت ، في البداية تفاجأت كثيرًا باسم جيروشا ، و تساءلت أيمكن أن اسم جودي ليس موجودًا إلا في الكرتون ، و لكنني فرحت حين وضَّحت جودي بأن اسمها في سجل الأسماء فقط جيروشا أما ما يناديها به الجميع فجودي ، و ضحكت عندما علَّقت على اسم جودي بأنه يوحي بفتاة ذات عينين زرقاوين مدلَّلة وسط العائلة و تسرح و تمرح بدون اكتراث ، و مما أسعدني في الرواية هو أن جودي لم تتذمَّر من لون شعرها الأحمر كما كانت تفعل في الكرتون ، و كنتُ أتأزَّم لها ، على أيَّة حال صاحب الظل الطويل لا زال حلمي ، صاحب الظل الطويل من أجمل ما قرأت .
جين أبدعت في نقل جودي من لقيطة في ميتم نفد وقتها فيه إلى متخرِّجة من الكليَّة و سيدة مجتمع قادرة على التأثير ، ببطء و سلاسة لن يشعر بها المشاهد أو القارئ ، و لكنك ستقع على حقيقة أن جودي أبوت لم تعد تلك اللقيطة التي تغسل وجوه مجموعة من الأطفال كل صباح ، و تخرج معهم إلى فناء الميتم فتسلِّيهم برسم صورة للآنسة ليبيت على باب مخزن الحطب ، لم تعد جودي مجبرة على خياطة ملابس الصغار ، و لا غسيل الصحون الكثيرة في المطبخ فقط لتبقى في الميتم بعد وصولها لسنِّ 17 ، جودي أصبحت تعرف روايات شكسبير و تعرف مايكل آنجلو و تعرف أيضًا موريس ماترلينك و الكثير من الكتب التي حتى أنا لم أعرفها أو لم أقرأها بعد ، جودي أبوت بدأت من ميتم و انتهت بوجود ، وجود في قلب كل متواجد ، و لم تعد شخصية في كرتون كان رواية ، بل أصبحت كائن يزخر بالإبتسام بوجه كل الصعوبات ، يقطن في قلب كل متفائل .

علَّمتني جودي دائمًا أن البداية قد تكون مؤلمة للغاية ، و قد لا تكون هناك بداية ، و في الوسط ذكَّرتني بالمحارب الشجاع الذي رغم إصابة قدميه بادئ ذي بدء إلا أنه قام مستندًا على قدمين مستعارتين كانتا لصاحب الظلِّ الطويل ، جودي تقول " بدأت أشعر ان العالم هو بيتي ، و كأنني أنتمي حقًّا إليه و ليس ازحف على سطحه فحسب " ، لم ترضَ جودي بأن تكون زاحفة عليه فقط ، دبَّت بحركتها عليه ، عوَّضت عن كل تلك الظروف ، حتى أغرقتني في غيرة تامة منها ، غيرة عمياء ، و تمنَّيت وقتها و قوَّتها ، و حبها الخالص لصاحب الظل الطويل و جوانب حياتها التي لم تتشبَّع بغير الفائدة ، و أولًا و أخيرًا دائمًا حلمتُ بصاحب الظل الطويل ، على هيئة صامت يقرأ لك بكل شغف ، يجلس على مكتبه الفارِه و يفتح مغلَّف رسائلك بحرص ، يقرأ بانسجام تام و اهتمام بالتفاصيل ، ثم يعيد الرسالة و يضعها داخل صندوق خاص و يحفظه في الدرج الأعلى كي يعود له في أي وقت اشتاق به لك ، جودي وصلت في الأدراك مرحلة تقبُّل انقسامات الأشياء و ليس العمل على رفضها بالأدلة القاطعة ، جودي شخصية صقلتها الظروف لتصبح بتلك المناعة الباهرة من كل الإسقاطات التي واجهتها ، أرهبتني عندما رفضت الذهاب للمزرعة قبل بدئ العام الأخير و ذهبت مع آل مكبرايد إلى المخيم ، أدهشتني عندما وضعت كتابها في سلَّة المهملات بكل رضا و سلام ، كانت متصالحة مع نفسها كثيرًا للحد الذي لم تشعر مرة بتأنيب الضمير على ما يبدو ، هي كانت قادرة على قول رأيها بكل صراحة و صدق ، ثم تغييره إن لزم الأمر و بكل بساطة و ثقة أيضًا ، جودي مثال المرأة الناضجة رغم كل الظروف .
أبكتني جودي مرَّة على ما أظنُّ في الماضي ، و أحرقت حلقي بالعبرة مرَّات كثيرة ثم اطفأتها بأسلوبها المازح و كأن شيئًا لم يكن ، و جودي بالأمس ذكَّرتني بكل ذلك ، و أضحكتني مرَّات كثيرة أثناء القراءة لها ، جودي قادرة على التأثير و هي شخصية في كتاب ، فما بالك بها كشخصية تعيش في أرواح أولئك المناضلات في درب الحياة ، جودي منهج حياة أكثر من كونها تجربة عابرة فيها ، و صاحب الظلِّ الطويل العنصر الذي لم يفعل شيئًا أكثر من فتح الباب أمام جودي أبوت لتنطلق نحو الحياة ، بعد أن وضع في رقبتها شريحة حب تنبِّؤه بكل المستجدَّات ، كان جيرفس و لا يزال رجل كثير من الفتيات ، و لم يكن رجلي جيرفس ، كان رجلي المفضَّل صاحب الظلِّ الطويل ، الذي لو أردته أن يكون فسيكون صاحب الظل الطويل إلى الأبد و لن يعود جيرفس مرَّة .

و لو أردت قبلة حياة فسأبغيها على صيغة صاحب الظلِّ الطويل حين قال : صغيرتي الحبيبة جودي .
يمكنني أن أصبح جودي وقتها أيضًا ، فتبديله بإسمي سيجعله مبتذلًا جدًا ، و رغبة مني بالإعتراف بانقسامات الأشياء و عدم محاولة دمجها و تركيبها حسب ما أرى ، فسيكون اسمي جودي وقتها و لا مانع عند اسمي بذلك ! ، ألم أكن دومًا أسماء بحيث يمكنني أن أصبح أيَّ اسم على لائحة الأسماء ؟
على أيَّة حال ، و بعد قراءة الرواية و من قبل مشاهدة المسلسل الكرتوني مئات المرات ، أدرك أن جودي صغيرة تعيش بداخلي ، و لكنها تنتظر صاحب الظل الطويل كي يفتح لها نافذة حياة نحو القلم و الكتابة ، و الإدراك أيضًا لفوضى الوجود ، و أدرك من ناحية أخرى بأن جودي أصابتني دومًا في مقتل من الغبطة ، حتى أنني تمنَّيت و أنا صغيرة أن أكون هي نسخة طبق الأصل ، و لكنني أدركت بأن هذا مستحيل و أن حريَّة جودي كانت ذات ثمن غالٍ جدًا ، و على أيَّة حال فهي قد دفعته بكل كرم و بساطة ، و آمنت بأنَّ حريتها غالية على الكثير أمثال جوليا و الذئاب كما في " أخضر قاتم " ، جودي كانت جديرة بالوجود لتوجد ، قادرة على الحياة و فعلت .
تقول جودي بأنها قد وجدت السعادة و هي " أن تعيش اللحظة فقط " ، قالت هذا لصاحب الظل الطويل إلا أنه لم يكن كافيًا القول فقط ، كانت ذات مساحة فكرية فارغة و مُعدَّة للملء بطبيعتها المحبَّة للمعرفة ، و عندما بدأت تتوسع في عرض أفكارها بدوريَّة على صاحب الظل الطويل ، كان هذا بدون شك يخدم ادراكها بحقيقة الأشياء و طبيعة انقسامها ، و هوية صاحب الظل الطويل التي بقت غامضة عنها حتى الوقت المناسب كانت ممتازة ، فلو أن صاحب الظل الطويل كان قد كشف عن هويته منذ البداية لم تكن لتصل جودي إلى تلك الحالة من الإدراك و النضج و الرضا التام عن ما أدركته طوال حياتها ، و لم تكن لتصل إلى ذلك الإرتواء من صدق الحب إلا عندما ضحك جيرفس و رفع يده قائلًا : صغيرتي الحبيبة جودي ، ألم تعرفي أنني أنا صاحب الظل !
كيف يمكن لجودي ألا تكون مثالًا لشرح أن الحياة لا تتوقف على بداية ، و أن الوجود لا ينتهي لأجل وحدة قائلة ، إن جودي برأيي محظوظة كثيرًا ، للحد الذي كانت فيه امرأة حرة ، تستطيع أن ترفض فيها أمر من يعولها من خلف حجاب ، امرأة قوية كي تقدر على تنفيس غضبها برسالة و إرساله إلى من يجب أن يتحمَّله ، ثم بكل قوة أيضًا تعتذر عن ثورتها التي ظنَّت أن اللباقة لا تحيِّيه مع تمسُّكها بقرارها و رأيها ، جودي مربكة و قد فعلت معي هذا ، فأسكتت كل تلك الأعذار الواهية التي خبَّأتُها لأي غضب قادم تجاه نفسي ، داست جودي على جرح وحدتي ، جعلتني أتقلَّب في فراش الغبطة من صاحب الظل الطويل صاحبها الأكيد ، في النهاية قَرَأت أكثر مني ، و ذكرت اقتباسات من كتب حتى لم أسمع بها ، و الأهم أنها نجحت دائمًا مع كل إخفاق لها ، بإصرارها و جهدها نَجَحَت ، و فشلتُ دائمًا مع الأسف .

كانت جودي تمتلك تلك الأوقات الهادئة التي تكتب بها من مكتبها أمام النافذة ، تكتب لصاحب الظل الطويل بحب خالص ، لديها ذلك الصفاء الذي يمكنها به توجيه الحب النقي لصاحب الظل الطويل ، حب يكاد يكون كاملًا حيث لم يتأثر بعصبيتها المعهودة ، و لم يتأذَّى بعدم حبها لآل بندلتن ، كانت محظوظة بصاحب الظل الطويل بشكل متميِّز ، و كنتُ محظوظة بعائلة كاملة ، كانت تحبُّه من قبل أن تعرفه ، و كنتُ أحبهم منذ عرفتهم ، كان حبها أكثر وضوحًا ، و حبي أكثر تشويشًا و ضجة ، وقتها كان أكثر ازدحامًا بالعلم و الأدب ، و كان وقتي أكثر ازدحامًا بالحياة الاجتماعية المليئة بالضجة و الكثير من الأمور الرسمية المُضيعة للوقت ، جودي لم تنسجم مع طبيعة العيش في قصر آل بندلتن و السبب يعود بالطبع إلى جو حياة الضجة الاجتماعية هناك ، و التي لم تعشها من قبل ، و بالتالي لم تتقبَّلها خصوصًا و أنها عندما خرجت من الميتم إلى الكلية ازداد وقتها ثراءًا و أصبح حافلًا بالجدية أكثر ، جودي كانت واثقة بقلمها ، و رمت الكثير من القصص في سلَّة المهملات برضا ، و أحرقت مرة كتاب ، لم تكن تُحطِّم نفسها بقدر ما كانت تثق بقلمها ، و تثق بأنها قادرة على كتابة شيء أفضل و بطريقة أنضج كما نجحت في المرة الأخيرة ، كان لديها المتسع من الوقت و الفكر لتكتب و ترضى ثم ترمي فتهدأ ، و من ثم تبدأ من جديد بقوَّة أكبر و بثقة أعلى .

بعد كل هذا الحديث الكثير عن صاحب الظل الطويل ، أظنُّ أن ندمي من عدم شراء النسخة الورقية زاد ، و أظنُّ أن ندمي من قراءة الرواية أوَّل مرة عبر شاشة أمر مخزٍ حقًا ، و لكن لا بأس ، لا بأس سأفعل كما تقول جودي ، علي أن أعش اللحظة فقط ، سيكفيني هذا من رضا .



عزيزي يا صاحب الظل الطويل خاصتي
أين أنت ، لقد تأخَّرت كثيرًا في الوصول إليَّ ، إنني في الثامنة عشر و بعد شهرين سأكون في التاسعة عشرة ، صِل سريعًا ، الوقت لا ينتظر أحدًا .



 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Follow Us @techandinv