في الخط الثالث من
الطريق البحري ، قيد التجهيز ليصبح جاهز للحركة بشكل رسمي عليه ، و في مقدِّمته من
جهة المعلا و خور مكسر ، دخلنا هناك ، و حضَّرنا الشواء و صنعنا الشاي و القهوة
على الجمر ، هناك أصداف حيَّة ، قواقع تتحرَّك ، دود أسود سريع الحركة ، لفتتني
القوقعة الصفراء التي كانت تمشي على مهل ، بجانبها قواقع لا تتحرَّك ، اسوَّدت من
اللاحياة التي تعيشها ، لا زال بها خطوط صفراء لكنها داكنة و الأغلب في لونها
الأسود ، اقشعرَّ بدني من اللزوجة التي بالصخور ، الماء يغمرها و يكاد يُسقطك لو
لم تكن ثابتًا ، و قد سقطت كما هو المنتظر مني ، غمرنا أقدامنا بماء البحر ،
صوَّرنا المنظر الساحر الذي يشمل البحر و الشمس و القوارب المتأرجحة على سطحه
ملايين المرَّات ، ابتعدنا قليلًا عن الموقع أنا و براءة المنسجمة باللعب على
دراجة أخوها الصغير ، اقتربنا من القوارب فحصنا المكان هناك و وجدنا أصداف غريبة و
كثيرة ، و لكنني رفضت أن نحملها و نريها الآخرين ، خفتُ أن تكون حيَّة و تتحرَّك
بين أيدينا ، ركضنا غير آبهين بحركة السير النشطة على الخط المقابل ، كان الآخرون
يشعلون النار بعد أن جهزوا مكان الشواء ، و بدأوا بصنع القهوة و الشاي ، بينما
قمنا نلعب بالأحجار الصغيرة و نرميها للبحر ، و بعد صلاة المغرب قُدِّم العشاء
المبكِّر المكوَّن من دجاج و بطاطا و بعض الخضروات الأخرى و أحضرنا معنا بعض الرغيف
من المنزل ، كان الطعام شهيًا و إن كانت البطاطا غير ناضجة تمامًا إلا أن البهارات
فعلت فعلتها و جعلتنا نلتهمها بتلذُّذ ، ثم بعد الطعام جلسنا قليلًا ثم رتَّبنا الأشياء
و غادرنا و ها أنا أكتب .
إنني لا أنكر أنني
سعيدة بالنزهة السريعة هذه ، و لكن رأسي العنيدة تقول : " منذ الصباح تضعين الأشياء موضع طوارئ
و ترتيب ، ثم ذهبتِ الرحلة و عدتِ ، أخبريني ماذا أنجزتِ اليوم ؟ "
لا بأس اغفروا لي إنه
هوس المثالية ، و هاجس الوجود الذي يقتل كل من يغرق في فوضى التأثير و البصمة ، أزفر
نهاية كل يوم بقلق من تضييع الوقت ، أتنهد ببطء كلما أدركت أن طاقتي موفَّرة في
أماكن لا تكاد ترى ، و أطرق بأصابعي على الجهاز أثناء قراءتي لكتاب ما بتوتر ،
أعرف أنني أضيع الوقت و أعرف أنني ما دمتُ أريد أن أكون مؤثرة في هذا العالم ، أو
حتى في هذا المحيط ، فيجب عليَّ أن أبدأ و لكنني لا أعرف من أين أبدأ ، و كيف ؟!
فأستمر بإضاعة الوقت
بابتسامة متوترة ، و أصابع تُفرقع كل ثوان ، سأسمي هذه الحالة : " هاجس
الوجود " ، مع أن تسميتها و عدم تسميتها لا يصبُّ في مصلحة التخلُّص منها ، و
لكن لدي اقتراح لستُ أحبُّه و لكنني أقوم به على أيَّة حال ، و هو أن أتخلَّص
أولًا من هذا الهاجس الأحمق ، و كيف أتخلَّص منه ؟ ، حتى الآن لا زال الحل أكثر
حماقة من الهاجس نفسه ، و هو أن أقضي وقتي بالرخاء بدون مبالغة فمثلًا عدتُ
للقراءة بشكل مكثَّف منذ يومين ، و أحاول ألا أهتم كثيرًا للأحداث من حولي ، حتى
أنني في هذه النزهة لم أقم بأي مشاركة في التخطيط ، و كل ما فعلته أن جهَّزت نفسي
و ساعدتُ فيما يُطلب مني فقط ، و عندما يجيء ليل هذه الأيام أقوم بطرد أيِّة تأنيب
للضمير ، و أخبر نفسي بشكل متكرِّر إنها استراحة ، و لا أدري استراحة لأي شيء
بالضبط ، و لكنها استراحة هكذا عقلي يقول ، و هناك لافتة بعيدة يرفعها عقلي بعينين
ضيقتين مكتوب عليها : " هنا تنتهي الراحة ، هنا يبدأ الجد " ، و أظنُّ
بأن رأيي يقول بأن ما قرأته سيكون زادي في ذلك الوقت ، و لكن بشكل عام تبدو الرؤية
من هنا مشوَّشة و ضبابية ، قد لا تكون هناك أيَّة نهاية لهذا الرخاء ، و عندما
أفكِّر بهذا أقول برعب : " بلى بلى هناك نهاية ، يجب أن أبدأ " ، و
عندما أقول بشبه يقين : " ها هي نهاية رخاؤك يا أسماء ، ها هي بوادر الجدِّ
تلوِّح " أطرق أصابعي على أي جسد جمادي ، و أغوص بين كلمات الكتاب الذي أقرؤه
، أحاول اكتشاف المجرم في القضية ، و أحاول بعين متحذلق أن أخرج عبرة و مغزى من
وراء أي كلمة عابرة ، تمامًا و كأنَّهم يقولون الإمتحان غدًا ، و أنا أتمادى
باللهو قبل أن يقبل ، و في كل الأحوال إنني انسان كفاية كي أخاف من وقت الجدِّ و
كي ترتعد فرائصي من البدايات المتأخرة ، و لكنني بشرية مغرورة للحد الذي يجعلها
تجزم أن وقتها هذا ليس ضائعًا تمامًا بل نوع من ما يحتاجه أي بشر .
هناك عبارة لا
أتذكَّر تمامًا أين قرأتها و لكنها شغلت بالي كثيرًا و لا زالت و هي : الوقت الذي
تستمتع بإضاعته ليس وقتًا ضائعًا .
و رغم أن العبارة
جاءت لصالح كسلي و تكاسلي إلا أنها لم تدفع شيئًا للبدء ، لا زلت متوقِّفة أو ربما
سأقول كما كنتُ أقول " لا زلتُ أركض دون حراك "
نَفَسي منقطع ، روحي
منهكة ، و عيناي مجهدتين ، و يداي في قمة الذبول ، هناك إرهاق و إنهاك بلا مصدر ،
إنني أريد البدء و هذا مرهق كثيرًا ، و برأيي البدايات هي الشريط الذي يجب أن تبدأ
البحث عنه كي تقطعه و تبدأ طريقك ، و لهذا كل البدايات السابقة كانت وهمية ، لم
يكن هناك أي خيط افتتاح ، كل ما هنالك بعض الخيوط المتناثرة في كيس مخبَّأ في درج
ليس مميَّز أبدًا ، و لهذا كانت البدايات غير صالحة للبدء من جديد ، و لا حتى
للتذكُّر ، و عندما تكون البداية وهمية فإن إشارات باقي الطريق سراب .
البدايات ليست الشيء
الصوري ذاك ، البداية هي الدفعة الأولى في نشاط ما ، فمثلًا البداية في اليوم تكون
بترتيبة سرير ، ابتسامة دافئة ، حمام سريع ، و أحيانًا لا شيء بالمرَّة ، و هذه
البداية الصغيرة تحدِّد نوع اليوم ، و تكون منها نقطة انطلاقة روتينهُ ، في بعض
الأحيان و عندما لا تكون لليوم بداية فسيكون اليوم كله عبارة عن خط ممل من الأحداث
مليء بالسراب و أحلام اليقظة ، البدايات مهمَّة جدًا ، و دومًا كنتُ فاشلة في
البدايات ، لأنها دومًا احتاجت دفعة أولى ، و أرى صعوبة كبيرة من فعلها ، إنني
جريئة و لكن في البداية و عندما أحتاج جرأتي يحدث أن تكون كما المستحيل ، و رغم كل
محاولاتي فلا تكون كافية ، لذلك بداياتي قليلة جدًا و على أصابع اليد يمكن عدها ،
و هي كما النجوم التي على كتف أفخر بها كثيرًا ، و أهنِّئ كل من لديه القوَّة
دائمًا للبدايات و أقول : امضِ ، احصد بدايات أكثر أنت بحاجة للوجود .
اليوم مثلًا كان لدي
جرعة من أعشاب يجب أن أشربها ، و لكن بسبب تخوُّفي ماطلتُ في شربها ، حتى عدتُ من
رحلة الشواء ، و كادت اختي تقتلني لإخفاء الجرعة كل هذا الوقت ، و شربت أمامي منها
كي تريني أنها ليست سيئة للحد الذي أخاف منه ، و بعد عناء من التفكير بسكبها سرًا
و الذي كشفته اختي و رفضته تمامًا ، أمسكتُ بأنفي عند حوض الغسيل و أغمضتُ عيناي و
شربتها بسرعة و تلاحق !
كانت مُرَّة كثيرًا ،
و لكنني في النهاية شربتها ، لماذا أخَّرت بداية شربها كل هذا الوقت إن كنتُ
سأفعلها في النهاية ؟
هذا نوع آخر من
تصرُّفاتي حيال البدايات ، بداية متأخِّرة تابعة لشيء يكاد ينتهي ، بداية عرجاء ،
بداية ستنخر رأسي طوال الطريق ، بداية ستأخذ غالب قواي و سأسقط في ضعف خلال الطريق
، و بداية حمقاء للغاية ، و مجموعها قليل و يكاد لا يكفي متطلَّبات الوجود الذي
أبحث عنه .
ملحوظة أخيرة : البدايات
الوهمية هي تلك التي تجعلك تُثبِت لنفسك عشرات المرَّات أنك بالفعل قد بدأت و أنه
ليس عليك أي غبار مما تشتمُّه ، و أنَّك تعاني من هاجس اللاوجود و أنك جدير
بالتأثير ، قدير على الإنجاز ؛ و أنا أقول لك : أنتَ إنسان كفاية كي تأخذ وقتك في
الحياة و النضج بتوازن ، " ابدأ " هذا ما يمكنك أن تفعله إن كنتَ مصرًا
على فعلها الآن .
هذه الأيام أسمع شيلة اسمها أوَّل أحلامي يقول فيها :
جدعت عمري بلا ترتيب
و العمر تاليه مترامي
أساير الوقت بالتلعيب
و أقول أنا بأوَّل احلامي
كلمات : صالح السهلي
"لا بأس اغفروا لي إنه هوس المثالية ، و هاجس الوجود الذي يقتل كل من يغرق في فوضى التأثير و البصمة ، أزفر نهاية كل يوم بقلق من تضييع الوقت ، أتنهد ببطء كلما أدركت أن طاقتي موفَّرة في أماكن لا تكاد ترى ، و أطرق بأصابعي على الجهاز أثناء قراءتي لكتاب ما بتوتر ، أعرف أنني أضيع الوقت و أعرف أنني ما دمتُ أريد أن أكون مؤثرة في هذا العالم ، أو حتى في هذا المحيط ، فيجب عليَّ أن أبدأ و لكنني لا أعرف من أين أبدأ ، و كيف ؟"
ردحذفلأجل هذه الفقرة أهديكِ تدوينتين الأولى لَنَوار و الثانية لتسنيم 🌸 آمل لكِ الفائدة :')
تدوينة بعنوان - تغيير
https://nawartaha.wordpress.com/2019/09/19/change/
تدوينة بعنوان - إنجازات صغيرة
https://mntasneem.wordpress.com/2018/09/04/%d8%a5%d9%86%d8%ac%d8%a7%d8%b2%d8%a7%d8%aa-%d8%b5%d8%ba%d9%8a%d8%b1%d8%a9/
أكرميني و إياهن بدعواتك الطيبة 😁🌿
بدأتُ بقراءة هديتيك اللتان تبدوان في قمَّة الفائدة لي ، و اللتان على الأرجح تعالجان هذا الهوس ، شعرت بأن قراءتي هناك و تركي لك هنا سلوكًا غير مهذَّب لذا سأشكرك من قبل القراءة و ربما أشكرك بعدها .
ردحذفسلمتِ نسرينة ، على الحضور بهدية لطيفة تشبهك 💝
بالنسبة لتسنيم و نوار فمن قلبي خالص الشكر لهنَّ و لأسلوبهنَّ القريب من القلب و الذي يجذب على متابعة القراءة بشغف .🌷