في الساعة الخامسة
صباحًا ، كنت أبتسم !
كنتُ نائمة ، و فجأة
صحوت و ما إن ركَّزتُ على الفوضى التي أيقظتني ابتسمت بعينين كسولتين و وجه مغمور
بالنعاس ، رأيت أشباح قديمة كنتُ أعرفها ، لا تفتأ تظهر في مثل هذه الأوقات
الحافلة ، كانت تزمجر و وجوهها مكتسية رداء الألم و شيء من فاجعة كنتُ قد
تخطَّيتها ، لكنَّها لم تستطع أن تتخطَّاها .
لم أرد أن أجرحها
بابتسامتي ، لكنني لم أستطع إلا أن أفعل ، و كلَّما أردت أن أُهدِّئ عضلات
الإبتسامة تزداد اتِّساعًا ، في وجهي ملامح التهكُّم ، في كفي نبتت عبارات ساخرة
لم أكتبها بعد ، و فيما بين عقلي و قلبي نقاش حاد ، الأوَّل يشجِّع تلك الإبتسامة
و يعيد عرض ذكريات الفاجعة نفسها ، و يضيف بتهكُّم زوم للنهاية الساذجة كل مرَّة ،
و الأخير يرفض الجرح ، و يصرُّ على أن الوجود يحتاج مثل هذا الحماس ، و أن الفاجعة
هذه يجب أن تنال مستحقَّها من الخوف و الحزن ، و صوت الحواس صَمَت ، بعد أن همس
بكسل : لنعد للنوم ..
و سرعان ما أطاعت
عيناي فأُغلِقت ، و أُذناي فصُمَّت ، و كفاي فذبلت ، و سكن كل أعضاء الجسد ، عاد
النوم يشلُّ جسدي المسجَّى ببرودة قارسة ، و بقي بداخلي دفءٌ ساخر من فوضى الجمجمة
و النبض التي لم تسكت ...
في الساعة التاسعة
صباحًا ، قامت عصافير مجهولة تمارس نوحٌ حماميٌ متقن ، رفرف هواء مشاغب فوق خدي
فدغدغني ، و فتحت عدستيَّ فاتَّضح أن تلك العصافير هي النقاش الذي لم يسكت حتى بعد
نومي !
وجوهٌ شاحبة ، أعين
متورِّمة تحدِّق بأشياء لا تمت للفاجعة بِصلة ، و عادت نفس الإبتسامة لشفتيَّ ،
بخجل أخفيتها بذراعي ، لا أريد أن أؤذي أحدًا ، و لكن الموقف يستدعي هذه الإبتسامة
حقًّا ...
أن تعرف نهاية
الفاجعة لهو سلاح ذو حدَّين ، حدُّ التهكُّم على المتفاعل معها ، و حدُّ اللاشعور
بشراراتها ، و لهذا لا يعرف نهاية الفواجع كثير ، و لكنني كنتُ أعرف ، كنتُ أبتسم
و كأنني أشاهد فيلمًا على محطَّة انتظار ، لا أعيره اهتمامًا لأنه في كل مرَّة
يتوجَّب علي مشاهدته نفسه ، أبتسم عندما يبكي ممثليه لأنني أعرف أنهم سيضحكون في
النهاية ، أبكي عندما يضحكون ، لأنني أعرف أنهم سيبكون في المرة التالية ؛ و فيما بين
كل هذه الفوضى أمضي على دربِ الجنون ، في خطِّ سير قطار مهجور ، من خيال الحبِّ
المهدوم ، و أسير دون شعور ..
إلى أين ؟
لا يكفي ، أحتاج
طريقًا لا ينتهي ، أبغي سبيلًا غير مسدود ، و أرمي كلَّ تلك الأحلام الفقيرة ، و
أبكيها دون صوت ، دون دمع ، و أخنق قوى اللوم في حنجرتي ، و أعبر فاصلة مهملة ، و
أغادر دون رجوع و لا ركوع .
في الساعة الحادية
عشرة مساءً أرسم ذكرى الفاجعة المزعوم ، الفاجعة التي لم تعد تُفجِع ، في ثوب
مستور ، لونه أحمق كالأحمر الصارخ أو الوردي اللمَّاع ، لا زال اسمها فاجعة و إن
لم تعد تفجع ، لهذا سترتها و جمَّلتها و نمَّقتُها و كأنها سجن على شكل قصر باذخ ،
و في حقيقتها سحاب قاحل ، و زهر سام ، و لون صبح مستعار ، و زجاجة فاخرة فارغة ، و
ساعة يد متوقِّفة ، و ظلم و ظلام كليل مستدام ، و كغسق سرمد على الأيام ..
لا بدَّ ينفكُّ الحصار .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق