15‏/5‏/2020

# تأمـلات # رسائل لن تصل

موت العمِّ صالح ، و ما بعد الموتِ لا ينفع إلا الدعاء


21 رمضان 1441 هـ

يصلنا اليوم خبر وفاة أخو زوجة أخي ، أُصيب بجلطة قبل فترة و نجا منها ، ثم اليوم يموت بشكل مفاجئ خصوصًا و قد حادثها قبل يومين فقط ، فرحمة الله تغمره ، و أسكنه فردوسه ، و وسَّع له في قبره ، و جعله روضة من رياض الجنة ، و غَفَرَ له ، و عسى الرحيم يرحمنا إذا ما صرنا إلى ما صار إليه ...

زوجة أخي منهارة بشكل مؤلم ، تردِّد بصوت خافت منذ وصل الخبر : هنا نار بداخلي نار ...
لم تبكِ بل ظلَّت تتأوَّه و كأنها قد أصيب بالحُمَّى ، و لكن جسدها بارد كالثلج ، تحمد الله بضعفها ذاك و تقول : هو ذهب إلى الأرحم به منا ، و لكننا المصاب جلل ، الفاجعة كبيرة ، و تسهب في دعائها و مناجاتها و هي مغيَّبة تمامًا عن عالمنا بشكل يقطِّع نياط القلوب ، فأسأل الله أن يصبِّرها و يربِط على قلبها ..

و المثل الذي يقول  "الزوج موجود والابن مولود والأخ مفقود " لا زالت ترنُّ في أذني منذ ان شهدت على ذبولها ، و ارتخائها التام ، و يدها التي تضغط على قلبها قائلة : هنا نار تلهبني ...
قصَّة المثل معروفة و هي في زمن الحجَّاج بن يوسف حيث قبض على ثلاثة في تهمة وأودعهم السجن ، ثم أمر بهم أن تضرب أعناقهم ، وحين قدموا أمام السياف ، لمح الحجاج امرأة ذات جمال تبكي بحرقة ، فقال: أحضروها.
فلما أن أحضرت بين يديه .. سألها ما الذي يبكيها؟
فأجابت: هؤلاء النفر الذين أمرت بضرب أعناقهم هم زوجي .. وشقيقي .. وابني فلذة كبدي .. فكيف لا أبكيهم؟!
فقرر الحجاج أن يعفو عن أحدهم إكراما لها وقال لها: تخيري أحدهم كي أعفو عنه .. وكان ظنه أن تختار ولدها ؛ خيم الصمت على المكان ، وتعلقت الأبصار بالمرأة في انتظار من ستختار ..
فصمتت المرأة هنيهة ، ثم قالت: أختار أخي !
وعندما فوجئ الحجاج من جوابها ، سألها عن سر اختيارها ، فأجابت :
أما الزوج .. فهو موجود "أي يمكن أن تتزوج برجل غيره"،
وأما الولد .. فهو مولود "أي أنها تستطيع بعد الزواج إنجاب الولد"،
وأما الأخ .. فهو مفقود "أي لتعذر وجود الأب والأم".
فأصبح قولها مثلاً ؛ وقد أعجب الحجاج بحكمتها وفطنتها ، فقرر العفو عنهم جميعاً ...

عندما اقتربت منها كي أواسيها ، كان ترتجف و بصوت خافت و ضعيف قالت : حلمت أن سنِّي سقط ، حسبت أنه أصابني ألم أسنان ، و لكن المصاب أعظم !

سنُّها سقط ، أخيها الذي كان أبًا بعد والدها الذي توفِّي قبله ، أخيها الذي تغنَّى بها دومًا ، و كانت مدلَّلته حتى سمَّى ابنته باسمها ، اليوم تنعيه و يسقط من جوفها على شكل فقد ، تشعر بحريق يكويها ، لم تعد تفهم أهي بردانة و عندما تتدفَّأ تشعر بالحر و تعرق !
الأخ سند و ظهر مهما كان هاويًا ، مهما كان بعيدًا ، فيا رب احفظ إخواننا الأحبَّة و لا ترينا فيهم فاجعة ، يا رحيم ...
و تُرجِف فؤادي بقولها : كلُّنا إليك يا رحيم ، فارحمنا ..
و تنتحب : اغفر لنا ، سامحنا ...

الله هو الغفور الرحيم ، و سيرحمنا يا توته ، سيغفر لنا ما دمنا نستغفر ، قال : ( نبِّئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم )
الله غفور ، يغفر كل الذنوب ، و قال في كتابه : ( و هو الذي يقبل التوبة عن عباده )

و في الحديث القدسي عن النبي ﷺ أنه قال: يقول الله  ) :لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لقيتك بقرابها مغفرة )
الله هو العفوُّ الغفور التوَّاب ..
يمحو السيئات و يتجاوز عن المعاصي بعفوه ، و بغفرانه يستر على عبده الضعيف ، و المحو أبلغ من الستر ، و العفو و الغفران من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت و إذا افترقت اجتمعت ، فسبحان من وُصِف بالصفح و الغفران و عُرِف بالعفو و التجاوز ...
و بتوبته على عبده يوفق عبده ليتوب ، و يغفر له و يرحمه ، فتوبته على عبده تسبق توبة عبده له كما قال : ( ثمَّ تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التوَّاب الرحيم )

و هذه أيام فضيلة ، فـ ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم و جنَّة عرضها كعرض السماء و الأرض أُعدَّت للذين ءامنوا بالله و رسله ) ، و لا شكَّ أن توبة الله عليك من فضله العظيم فقال : ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم )
و في الآية التالية يقول الله : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتب من قبل أن نبرأها ) فكل ما حدث مكتوب و كل ما سيحدث مكتوب أيضًا ...
و في الآية التي بعدها : ( لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما ءاتكم )
و فيه مواساة للعبد ، و إقرار لقدر الله المكتوب من قبل أن نُخلَق ، و الله هو اللطيف و هو الجبَّار الذي سيجبر كل من كُسِر بفقدٍ كتبه له من قبل أن يُخلق ...
و من قصص هذا الرجل ، تقول أخته : كان يعتمر في يوم الواحد و العشرون من رمضان عن أبيها ، و يدعو أن يموت في هذا اليوم الفضيل ، فرحمه الله و غفر له و عفا عنه و هو الأرحم به منا ..

ما أرحمك يا الله ، ما ألطفك بنا !
و من الأحاديث العجيبة و التي يقشعرُّ لها البدن هو قول النبي صلى الله عليه و سلم : (  لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة , فانفلتت منه , وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فأضطجع في ظلها – قد أيس من راحلته – فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وان ربك – أخطأ من شدة الفرح – )

وقيل للحسن  : ألا يستحي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه ثم يعود ، ثم يستغفر ثم يعود ، فقل : ود الشيطان لو ضفر منكم بهذه ، فلا تملوا من الاستغفار .



إلى توته العزيزة ، إلى كلِّ مفجوع بفقد :
( و استغفر للراحلين ، و اعلم أن مصابك مكتوب من قبل أن تُخلَق ، و أنك ذاهب لا آيب إلى هذه الدنيا الفانية ؛ و تأكَّد أن الله أرحم به منك ، فلا ترهق روحك بمزيد من الندب ، و ادعُ دون توقُّف و لا يأس ..
و قل دائمًا في السراء و الضراء : يا رب ، يا رحيم )









الصورة من كتاب " لأنك الله " لعلي بن جابر الفيفي .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Follow Us @techandinv