8 رمضان 1441 هـ
بما أننا لاحظنا أن
قرار الحظر ليس جديٌّ ، و المساجد لم تغلق و لا حتى" قرُّوا الناس بالبيت
" فقد ذهبنا للمسجد اليوم لصلاة التراويح ، صحيح ان العدد أقل لكنه ليس كثيرًا
للحد الذي يشكِّل فرقًا ، و سألنا عن الحضور بالأمس فقالت الحاضرات أن العدد كان
طبيعي ! ، حسنًا مسألة استجابة المساجد للقرار الذي نزل بإغلاقها مسألة طويلة و
أظنها تفوق قدرتي على الشرح ، و والله إنني ذهبت اليوم و شعور بالذنب يرافقني ،
إلا أنني عندما رأيت الشارع طبيعي جدًا و كأنه ليس هناك حظر منزلي ، فقد تجاهلت
شعوري أو ربما تناسيته ، على كلٍّ أظن أن خبر كورونا عندنا هو محض سياسة ، خصوصًا
بعد أن عرفت اليوم من إحدى المصليات أنَّ الأستاذة الحبيبة بهجة التي توفيت في
الأربعاء 6 رمضان ، كانت تعاني من اضطراب الضغط و السُّكري و أصيبت بالمكرفس
المنتشر عندنا ، و عندما ذهبت للمستشفى حقنوها بالفولتارين فماتت _ رحمة الله
عليها _ ، و وصلنا خبر محزن آخر عن أستاذة علَّمتني الرياضيات في الصف السادس
الأساسي تدعى " لبنى " و أظنها من أصول صومالية ، كانت أستاذة قديرة و
إن أردت قول الحقيقة فهي أستاذة شديدة و حازمة لا تقبل التهاون أبدًا ، و لكن رغم
خوفي الكبير منها و قسوتها في التعليم فقد جعلت لي أساسًا ثابتًا في الرياضيات _
رحمة الله عليها _ و إن تأخر إدراكي لما قدَّمته لي ، فقد كنت أراها عملاقة و شيء
مخيف لا يقبل الصراخ و البكاء حتى ، على كلٍ فليغفر لها الله و ليكتب أجرها و
والله إنني أتذكرها كلما وجدتني أتذكر إحدى القواعد التي علمتني إياها ، و كلما
تذكرت جدول الضرب الذي حفظته كإسمي أشعر بالإمتنان لها ، و للخمس الدقائق الأولى
في الحصة التي خصصتها للتسميع و قد كانت أشد خمس دقائق في الدوام كله فتدخل بطولها
الفارع و تقول بعد سلام قصير مقتضب " أنتِ قومي أقرأي جدول ضرب ... " ثم تقطعها من المنتصف و تنتقل للأخرى
قائلة : " أكملي " فيبقى الكل منتبه لعلها تناديه و هو لاهٍ فيتورَّط ،
و هكذا حتى آتت الخمس الدقائق ثمارها و بقي جدول الضرب ثابتًا بداخلي مهما حدث ،
لا أعرف بمَ توفِّيت و بكل الأحوال فليتغمدَّها الله برحمته و ليعفُ عنها و يغفر
...
في المسجد و أثناء
انتظار اذان العشاء ، دخلت إحدى المصليات و سلَّمت على الحاضرات فسألتها إحداهن :
" فينك أتصلبك تلفونكم مقطوع ؟! " فقالت بابتسامة متأسفة : " آه
التلفون و الكهرباء و الماء مقطوعين بالجبل عندنا من يوم المطر ! " ردَّت
الأخرى بصدمة : " آآه ؟ " فعادت تقول بنفس الإبتسامة و بهدوء تام و هي
تمشي لمكان تجلس فيه : " الله يعلم متى بيرجعوهم ! "
يوم المطر كان
الثلاثاء 21 \ 4 ، و اليوم نحن الجمعة 2 \ 5 ؛ عشرة أيام كاملة !
حسنًا ، يمكننا أن
نعيش بدونهم و قد جرَّبنا هذا مرارًا ، الذي لفتني للأمر هو الرضا البادِ على
وجهها ، و الهدوء التام الذي تحدَّثت به ، و تذكَّرت ضيقي من انقطاع الكهرباء
ليومين متواصلين في منطقتنا بعد المطر !
وقفت على أعتاب رضاها
، تلمَّست هدوؤها بكف خجول ، قناعتها و ابتسامتها تلك ، سقطت في براثن حبِّ هذه الأم
الحنون ، حديثها هادئ و ابتسامتها لم تغادر محياها ، شعرت برغبة في الإعتذار لا
أدري لم ! ، أردت أن أقف بين يديها و أعترف بأنني كنت أقنط أحيانًا عند انقطاع
الكهرباء ، ليس لشيء سوى أن جهازي لم يتم شحنه بالكامل ، أو انقطعت أثناء الغسيل
فيتوقف العمل إلى أن تعود من جديد !
رغبت بقبلة على جبين
هذه الأم ، أن تعرف أن وجود هذه الخدمات أو عدمها هو من أمر الله بالقبض و البسط ،
و ما يقوم به المسؤولون ما هو سوى سبب لتسيير أمر الله ، فبهذا القبض الذي تشعر به
، و هذا البسط الذي نعيش به أتذكَّر : " و الله يقبض و يبسط "
الله هو الذي قبض عنهم هذه النعم و هو من بسطها لنا ، و دورنا في هذا
كله هو الحمد الدائم و الدعاء المتواصل ، فمن يقبض و يبسط قادر على تبديل الحال
بدعاء أو استغاثة صادقة ، و قد كان القابض الباسط دومًا سميعًا مجيبًا ، و كل أمره
عدل و حاشا و الله أن يظلمنا يومًا ، و كل ما يصيبنا من الخير و الشر هو من أمره ،
فيبلونا أنصبر أم نكفر ، فمن صبر فقد فاز و من كفر فقد فشل و ظلم نفسه بنفسه ، و
قد قال الرسول صلى الله عليه و سلم : " إن الله إذا أحبَّ عبدًا ابتلاه
"
و الإبتلاء يعني الإختبار أو الإمتحان ، كما قال الله : ( أولئك الذين
امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة و أجر عظيم )
قال الله تعالى : ( و لنبلونكم بشيء من الخوف و الجوع و نقص من
الأموال و الأنفس و الثمرات و بشِّر الصبرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة
قالوا إنا لله و إنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوت من ربهم و رحمة
و أولئك هم المهتدون )
و من لطف الله بنا أن
دلَّنا على طريق النجاة من الفشل في البلاءات في نقاط مفصَّلة تتطلب منا التمعُّن
فقط :
· *
نبهَّنا بأنه سيبلونا و يعني أنه سيختبر إيماننا و صبرنا و توكلنا
عليه .
· *
عرَّفنا بمادة اختباراتنا و هي :
1_ الخوف و فيه سيرى أين
سنتوجَّه بطلب الأمن و الأمان .
2_ الجوع و فيه سيرى
ممن سنطلب الرِّزق و الطعام .
3_ النقص و سيكون في
ثلاثة أشكال :
أ_ الأموال و فيه سنشعر بالفقر و الحاجة ، و بالتالي فسيرى الله ممن
سنطلب أن يغنينا من فضله .
ب_ الأنفس و فيه سنشعر بالفقد و اليتم و اللطم و الثكل ، و سيرى الله
كيف سنواسي أنفسنا بفقدهم ، و مِن مَن سنطلب العوض في الآخرة .
ج_ الثمرات و فيه سنشعر بالجوع و العطش ، و سيرى الله كيف سنتعامل مع
هذا الجوع و مِن مَن سنطلب المدد .
·
* بشَّر الصابرين على بلاءه ، و اختباره و أخبر أنهم هم المبشَّرون و
الفائزون في بلاءه .
· *
وضَّح لنا صورة الصبر بجملة شافية كافية ، فهم من أصابتهم المصيبة
فقالوا دون جزع : " إنا لله و إنا إليه راجعون " ، و هو ذكر عظيم يذكِّر
قائله بأنه مهما حدث فكلُّنا راحلون ، و إلى الله راجعون و خالدون .
· *
ثم أفاض علينا بنعمه على الصابرين و جزاؤهم لأنهم فازوا في البلاء
بصبرهم ، فأعطاهم نعمة عظيمة و هي توالي
الرحمات عليهم فالصلوات تعني الرحمة و من ثم أكَّدها برحمة أخرى فهذا من جزائهم أن
الرَّحمات تتوالى عليهم ؛ ثم وصفهم بوصف " المهتدين " و هم الذين قد
حظوا بالهداية و تمسَّكوا بشعلتها بجهادهم المتواصل و توكلهم الدائم على الهادي .
إن الصبر خصلةً للفائزين فدائمًا نسمع : " من صبر نال
"
و قد امتدح الله الصابرين و ذكرهم في كثير من المواضع فكرَّمهم بمعيته
لهم فقال : ( و الله مع الصابرين )
و أشار إلى محبته لهم فقال : ( و الله يحب الصابرين )
و أخبر أن الصبر من عزم الأمور فقال : ( و لمن صبر و غفر إن ذلك لمن
عزم الأمور )
و لا شكَّ بأن الصبر من الصفات التي لا يتَّصف بها أي أحد ، فهي صفة
تحتاج جهاد و قمع لكل كلمات القنوط أو الجزع ، و كفى بالله أن يكون معك إن كنت
صابرًا ..
رسالة اليوم إلى كل
الصابرين ، إلى كل الذين حبسوا كلمات الجزع ، و آمنوا بأن الله هو الذي قبض عنهم و
بسط لآخرين ابتلاءً لهم و امتحانًا لإيمانهم أقول لكم :
( إنَّكم لمحظوظون
بمعية الله لكم و حبِّه لخصلتكم ، فاستمروا في صبركم فعلى الله أجركم الكبير ، و
ما كان الله ليضيعكم و يضيِّع صبركم )
و أقول لكل ذي قلب
قانط و لسان جازع :
( إصبر تنل ، فإن جزعت فإنك لست بفائز و لا بجانِ شيئًا بجزعك ، و آمن
بأن القابض قبض عنك و بسط لغيرك بحكمة منه و عدل ، و هو السميع المجيب من قبل أن
يقبض عنك أو يبسط ، فادعه يسمعك و يجيبك و تفز ببلاء الله لك و تحظى برحمات منه لا
تنقطع ، و تكن من المهتدين )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق