1‏/5‏/2020

# تأمـلات # رسائل لن تصل

الموت ، و الأستاذة بهجة رحمها الله .


7 رمضان 1441 هـ


في هذا اليوم لم نذهب للمسجد لصلاة التراويح ، و ذلك بسبب قرار الحظر الذي فُرِض بالأمس ، و بما أن خبر كورونا لا زال متذبذب و الأرجح أنه كاذب فإن الشارع حيٌّ كالعادة و المساجد مفتوحة ، إلا أنه و استجابة لوليِّ أمرنا و تتبعًا لإجراءاته فضَّلنا البقاء في المنزل ، و و الله لولا أن قيادتنا أمرت بالبقاء لكنت ذهبت المسجد و صلَّيت مطمئنة ، ذلك لأن إعلان الشرعية لظهور حالات كورونا عندنا وراءه مقاصد سياسية بحتة _ تقريبًا _ كلنا نعرف بها ، و كما صرَّح مسؤوليها بكل صراحة بتغريدات أشبه بالنعيق من التغريد أن إذا كان المجلس الإنتقالي حريصًا على الشعب فليسلم لهم الإدارة الذاتية من جديد لتتعامل مع المرض ، و هذا و الله من أكذب الوعود التي تصرف ، فقد جرَّبنا الكوليرا و المكرفس و حمى الضنك و الملاريا و الصفار و كثير من الأمراض التي لم يتعامل معها أي جهة مسؤولة بجدية ، و هي أقوى بكثير من كورونا ، بل يعتبر كورونا بجانبها الجرو الوديع ، فأي وجه تتقدم به شرعية الفساد هذه و تعد بالتعامل مع كورونا !
حسنًا إنها سلسلة تأملات و ليست قضايا سياسية إلا أن الأمر مستفز جدًا ، و لذلك سأتوقف عند هذه النقطة من السياسة و ربما أقوم بعمل تدوينات لكي أتحدث بأريحية عن هذه الأمور ، على كلٍ وصلنا اليوم خبر محزن جدًا ، وفاة المشرفة : بهجة في معهد 14 أكتوبر _ رحمها الله _ ، و لم نعرف بأي شيء ماتت و لكنني أعرف أنها تعاني من عدم انتظام ضغطها و تقريبًا هي في عقدها السادس ، و أعتقد أن الصيام يؤثر على مرضى الضغط و على كلٍ فالله يرحمها و يغفر لها ، كل ما يمكنني قوله : " أن أجلها قد حان " .

قالت أختي و هي تحدِّث صديقتها اليوم عن كورونا عبارة تستحق التأمل ، و قد أثَّرت بي كثيرًا : " يختي الله يجيرنا من كورونا بس الحمدلله كل اللي ماتوا هذا أجلهم ، أما من ناحية قوة المرض حمى الضنك و المكرفس و الكوليرا أقوى " 

نعم هذه هي الحقيقة ، و هي أن كل من مات بهذه الجائحة ، و كل من مات بأمراض أخرى أو حتى بغير أمراض فهذا أجله الذي كُتِب له من قبل أن يولد ، فلا داعي للغضب من أي شيء و لا محاولة إلقاء اللوم على أي أحد ، هذا الأجل الذي هو مكتوب عليهم و انتهى .

و أردفت قائلة بشيء من السخرية : " دا المرض نسميهه عندنا جازعة ، هيا شوفيلك الأجانب أجتلهم جازعة قاموا سووا دي الفوضى كله " 

هذه الجملة ربما ليست صادقة تمامًا ، و لكنها تحتوي على جزء من الحقيقة ، فلو أن هذا المرض ظهر عندنا _ و نعوذ بالله منه _ فما كنا لنسميه غير " جازعة " و تعني " مرض موسمي ، و يصيب غالب الناس هنا ، و يتم تداول أعراضه و يسير الأمر بشكل اعتيادي جدًا ، و يحدث أحيانُا أن يموت أشخاص بهذه " الجازعة " و لكننا نقول كما يقول الأشخاص البسطاء : " الله يرحمه ، هذا أجله " و كما تقول جدتي _ حفظها الله _ : " كِمِل يومه " ؛ نحن لسنا قساة القلوب ، و لا متحجرين مشاعر ، بل نحن قوم آمنا بالموت الذي لا بد يأخذنا يومًا ما ، و لم نحاول يومًا البحث الدقيق بشأن " الجازعة " المنتشرة ، إننا نخاف من الموت كأي بشر و لكننا لا نهاب الحياة ، و لم نتوقف يومًا عن مواجهة المخاطر ، إنني لا أتفاخر بشعب مزَّقت الظروف ورقة أحلامه ، و لا بشعب نهشت الأحداث صورة الحياة الوردية منه ، بل إنني أقف على هذه الحقيقة التي لم يصل لها الكثيرون ، أدعو الآخرين أن يتَّخِذوا قانون " عش حياتك بكل ما تملك دون قلق " أدعوهم ليصلوا لهذا الإدراك الصائب ، بعد أن أوصلنا تلاطم أمواج العاصفة إليه ، فنحن قوم يعيشون على ما يملكون ، و راضون بكل الظروف إلا أن يسرق وطننا منا أحد ، قوَّتنا بالله ثم بهذه الأرض البرتقالية ، نستمدُّ ثباتنا من شمسها ، و نتعلَّم من خليجها كيف ننسجم مع حركة الموج ، فإذا ما حاول أحدهم اغتصاب وطننا قمنا متوكِّلين على ربٌ يحميها ، مدجَّجين بالشجاعة و مسلَّحين بالتوكُّل ، و نقدِّم أرواحنا على طبق من ذهب لهذا الوطن برسالة عريضة تتقدمنا نحو المحتل : " أنَّك لن تدخل قبل أن تريق دماءنا عن آخرها " ، و ببسالة أقرب للتهوُّر يمكننا القتال بأي شيء بكلمات أو بسلاح أو حتى أسلحة يدوية أو حتى بالحجارة ، يمكننا أن نصبح فلسطين لكننا فلسطين لن يُحتلَّ بإذن الله ، هناك كلمات عميقة حفرتها بداخلنا مناخات هذا الوطن : " الحياة مرة واحدة فعشها شجاعًا لا تهاب شيئًا " ، و أكملها عن القلوب الضعيفة : الموت مرة واحدة فلن أموت جبانة ...


طول الأمل فعل مذموم في الشرع ، لأنه يدفعك للتعلُّق الشديد بالحياة ، فتفقد الغاية الحقيقية وراء خلقك ، و لاحظ العبارة " طول الأمل " و يعني أن الأمل أمر مطلوب فاليأس أمر مرفوض ، و المذموم في الأمل هو أن يطول ..
و المختصر من موقفك نحو الحياة ، أن تعش دون قلق و لا حرص مبالغ به ، يمكنك التخطيط للقادم ، و يجب عليك أن لا تفقد الأمل في الحياة مهما كان حالك ، و لكن احذر أن تمتدَّ خططك و تطيش فيها و تنسى الله و تنسى أن هناك دار أخرى فيها الخلود و عليك أن تخطط لخلود ممتاز و نعيم مقيم فيها فهي الدار الأولى بالعمل لها .

الله هو الحيُّ الذي لا يموت ..
أما نحن فإننا راحلون ، و لسنا خالدون على هذه الدنيا الفانية ، و عندما خلقنا هذا الحيُّ خلقنا لغاية لأنه حكيم ، و لم يخلقنا هملًا أو عبثًا ، و أخبرنا بأن حياتنا هنا مؤقتة و زائلة ، و أن كل ما علينا هو الحصاد للآخرة و من رحمته أنه لم يحرِّم علينا متعة الدنيا كلها بل قال " و لا تنسَ نصيبك من الدنيا " و حذَّرنا من اليأس من رحمته و أنبأنا أنها صفة للمشركين قائلًا على لسان نبيِّه يعقوب : " إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون  "

الحيُّ ربنا رحيم بنا ، حكيم ليخفي عنا آجالنا التي كتبها من قبل خلقنا ، أرادنا أن نتوكَّل عليه و أن نعرف أنه حافظنا و ليس لنا أحد سواه ، بل جعلها فطرة لا تنفك عن بشريتنا ، فإذا ما جاء وقت الشِّدة دعوناه متأكدين بأنه الواحد الأحد الوتر الصمد ، و لكن و لأنه وجب اختبارنا فقد وسوس إبليس للكثيرين بالتكبُّر عن عبادته ، و هذا ما حدث مع أنكى المشركين " فرعون " و كثير من المشركين على مرِّ الأزمان ، و على هذا يجب أن نعرف بأن الموت حق و أنه لابدَّ آت لا محالة ، لا يردُّه شيء و لا يحول بينه و بين صاحبه شيء ، و أن ما يموت الإنسان به ما هو سوى سبب ليموت في أجَلِه ، سواء كان مرض أو حادث أو موقف أو حتى بلا سبب ، لذا فالذين قد ماتوا من أحبابنا لن يعيدهم الصراخ و لن يرجعهم البكاء ، لقد رحلوا إلى غير رجعة ، رحلوا و ما ينفعهم سوى الدعاء أن يا رحمن يا رحيم ارحمهم و اغفر زلتهم و طهِّرهم من خطاياهم و أعتق رقابهم من النار و اجعل قبورهم رياض من الجنة ، و أسكنهم في فردوسك الأعلى .. آميـن

أذكر الآن قول الشاعر سعد علوش _ حفظه الله _ :
أفضل وسيلة للسعادة و النجاة
سهلة على الراغب و لا هي كايدة
توحد الله صدق و تقيم الصلاة
و جعل الفواحش عن حدودك نايدة

في هذه الأبيات يشير سعد علوش بأن السعادة يمكنك أن تنالها بسهولة ، و ذلك بتوحيدك لله و القيام بأعمالك الصالحة التي تنتظر حصادها في الآخرة و أن تحذر من كل ما قد يؤذي توحيدك أو يوردك مورد هلاك لست بقادر على الخروج منه ..

شرح سعد بأسلوب مبسَّط أن السعادة التي يرنو لها كل مسلم و هي سعادة الدارين ، أنها سهلة المنال و لكن بالشروط التي ذكرها و التي تحافظ فيها على آخرتك و بنفس الوقت تمكنك من العيش معها براحة ، و هي طريقة مجرَّبة بل وصى بها النبي فخط عليه الصلاة و السلام خطاً مربعاً ، وخط خطاً في الوسط خارجاً عنه ، وخط خططاً صغاراً إلي هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط ، وقال : " هذا الإنسان وهذا أجله محيطاً به ، أو قد أحاط به ، وهذا الذي هو خارج أمله ، وهذه الخطوط الصغار الأعراض ، فإن أخطأه هذا نهشه هذا ، وإن أخطأه هذا نهشه هذا" 
و قال أيضًا : " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " ، وكان ابن عمر يقول : " إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك "



فاللهم ارحم موتانا و تقبَّلهم ، و ارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه يا رحمن السموات و الأرض ..



رهبة الموت تخنق المكان ، وحشة تلفُّ جسدًا خاوٍ غادرته الروح ، برودة قارسة تغلِّف جلده ، إزرقاق في أطرافه ، ارتخاء تام في عضلات الوجه ، الفك سقط بين الكتفين ، و العينين فارغتين من اللمعان ، شحوب لوَّن صفحة الوجه ، صراع طويل مع السكرات حتى استسلم كعادة من يحين أجله ، استسلم و تلاشت كل ذرات القوة ، و قطرات الحياة التي كان يتمسَّك بها ..
بهجة كانت ، بخطواتها القصيرة و المهرولة ، تملأ المكان حيوية ، صوتها حي و عينيها مشعتين رغم التعب ، كفيها لا تحملان شيئًا غير الإبتسامة التي ترسمها على وجه كل من تقابله في طريقها ، مبهجة كانت حتى في سقوطها العشوائي على مقعدها و الطاولة ، ذراعها ممدودة أمامها ، و وجهها ملقي على الطاولة تستجدي بعض الراحة و هي من سخَّرت راحتها للجميع ، ابتسامتها نادرة لأن ابتساماتها قد وزَّعتها على من يحيط بها ، فإذا ابتسمت أشرقت تقاسيمها و تقلَّصت تجاعيد وجهها الدافئة ، كفُّها مثقلة بالعطاء لونها بلون الفانيليا ، قلبها يكاد يضيء رغم حاجز الملابس ناصع كالسُّكر ، سموح و صادق و دائم البذل ، فوضوية لا تهتم بالنظام و لا بالتنسيق ، و لا تتوقف عند نفس الشيء كثيرًا ، غضبها أضعف من أن يسيطر عليها ، فإذا ما داعبتها وسط غضبها نسته و ابتسمت ، تقف عند بوابة الفصول تبحث عن المخالفات ، تمدُّ لإحداهن بمناديل ماسح المناكير و تقول بحزم : " هيا امسحي " ، تقول الطالبة باستعطاف : " و الله يا ست قده يد وحدة تعبت عليها كتير " ، تتنهد و تقول : " يا بنتي الإدارة بتصيح و لا اني عادي بدخلك  " فتتأفف الطالبة بضيق و تبدأ بمسح مناكيرها الغالية على قلبها ، فلا تلبث أن تقترح عليها : " البسي جونتي و اتخارجي طيب " تردُّ الفتاة بضيق : " لا خلاص قد مسحت الأول خليني أكمل " ، فتعود لتفتح موضوع تؤانس به هذه الطالبة !
تقف بجانب طالب لا يرتدي الزيِّ الرسمي ، تقول بحزم : " اش دا اللبس ؟ " يردُّ بتكاسل : " ما فيبيش طافة أبدِّل و الله يا ست بهجة ، أجيت ساني من شغلة مهمة " تزفر بتعب من تهاونه المتواصل و تقول : " اليوم بتوسط لك عند الإدارة بس بكرة لو تجي بدي التياب باروِّحك و ماليش دخل فيبك " فيبتسم الطالب ابتسامة عريضة و يجيب " عيوني عيوني " فتبتسم له و كأنه ليس مخالف ، ثم تذهب لتتوسط له عند الإدارة ...


أستاذة بهجة ..
لا أستطيع تصوُّر وجهك خاليًا من شعاعه ، و لا تصور جسدك باردًا بعد دفئه ، لقد غادرت بهجتك المدينة ، سكت صوتك الحيّ إلى الأبد ، و ضربت صاعقة فقدك أجيال تحبُّك و تعرفك حق المعرفة ، ربما قد نسيتها أو لم تقفي كثيرًا عندها بعد أن أدَّيت مهمتك و رسمت البسمة على وجهها و مددت لها ببعض من بهجتك ، لكنَّها لم تنساك ، و لن تنساك يا من كانت نموذجًا للبذل ، و مثالًا نادرًا في العطاء ، يا من علمتني دون حصص أن الجمال في القلب ، أن الحياة في البذل ، و ان الوجود كل الوجود في التسامح ؛ رحمَك الله و غفر ذنبك الذي لا أعرفه ، و جعل قبرك روضة من رياض الجنة ، و جعلك من عتقائه من النار في هذا الشهر المبارك ، و أسكنك الفردوس الأعلى و تقبَّلك عنده من الصالحين ...

إنـا لله و إنا إليه راجعون
الموت حق ، و البعث حق ، فيا الله يا أرحم الراحمين إرحمنا قبل الموت و عند الموت و بعد الموت ، و اغفر لنا حوبنا و خطايانا و اهدنا إليك و إلى صراطك المستقيم الذي لا عوج فيه و لا ميل ؛ ربـاه و أنت الكريـم .. 



إلى كل من يقرأ : 
( الحياة أقصر من أن تبحر في خططك فيها ، و أطول من أن تعش بقلق فتتبعثر ، كن على جانحين اثنين الرجاء و الخوف ، فإن غلَّبت أحدهما ففي الشدة الرجاء و في الرخاء الخوف ، و ستكون بخير ) 

 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Follow Us @techandinv