14‏/4‏/2020

# 2017 # مجموعتي القصصية

شهيدين بطلقـة



 السلام عليكم 

اليوم أخيرًا قررت بدء نشر مجموعتي القصصية التي كتبتها في سنة 2017 ، و رغم أنني عندما أقرأها الآن أرى كم هي ركيكة و مختصرة جدًا ، بل هي بالأصل عبارة عن مشاهد أكثر من كونها قصة ، و لكنني لا أستسيغ فكرة إعادة صياغتها بشكل أفضل ، لذلك سأنشرها على حالها و كما كتبتها أول مرة عندما كنت في السادسة عشر من عمري ، و المجموعة كلها عبارة عن قصص حقيقية وقعت في حرب الحوثي ، و إنما كتبتها بطريقتي و ببعض المبالغات التي يحتاجها النص ليكتمل ، على كلٍ المجموعة مكونة من ثلاث قصص و لم يقرأها أكثر من شخصين ، و لكنني قررت أخيرًا منحها فرصتها في الظهور على الإنترنت فلربما تنجح لم لا 😇

أترككم مع القصة الأولى ، أتمنى لكم قراءة ممتعة 🙂☕









.. شهيدين بطلقة ..




_ انتظروني يا رفاق , سأعود
_ لحظة ياسر , انتظرني سأذهب معك .
_ حسنًا اسرع , قبل ان نتأخر فيبدؤوا اللعبة ...






أشعر بإرهاق شديد , بالكاد افتح نصف عيناي , و سلاحي على كتفي كأنه جبل , كان اليوم بائسا فجيشنا لم يحرز أي تقدم , ياللسخافة ! , حسنًا يجب ان أصل لغرفتي سريعًا لأرتاح !
ارتميت ع الاريكة بجانب النافذة بعد حمام دافئ أراح اعصابي المشدودة , و تناولت سلاحي لتنظيفه من بقايا الرصاص كما اعتدت , أخرجت المخزن ووضعته على الطاولة , ثم وجهت الفوهة للنافذة و ضغطت على الزناد مع اهتزاز ذراعي للأسفل بسبب المفاجأة ... !







بامتعاض _ سيلا صغيرتي هل خرج ياسر و صقر ؟
_ نعم ، خرجا مع اصدقاءهما قبل قليل و لم يسمحا لي بالخروج معهما !
استأنفت طريقها نحو غرفة ابنتها الكبرى بقلق و توتر هامسة " يا رب احفظهم يا رب " !









وضعت الكتاب على المكتب ، و قمت من كرسيي و مشت ببطء و تعب نحو النافذة و بين يدي كوب القهوة الذي لا زال دافئًا ، أرخيت جبيني على الزجاج و تأملت الشارع الهادئ في مثل هذه الساعة من المغرب ، و بشكل سريع و مفاجئ اخترق الصوت أذني و اتسعت عيناي أمام المنظر المهول لثوان ، ثم صمتت جوارحي و سقطت يداي مع كوب القهوة مصدرة صوت مرعب ، خمس ثوان كانت هي المدة التي بقيت احدق بها للمنظر في الخارج ، كانت و كأنها سنينًا لن تنتهي ، فجسدي متيبس رغم الخدر الذي بدأ يلفني ، و الظلام الذي بدأ يكتسح مجال رؤيتي ، دوامة عنيفة أخذتني معها ، فصرخت صرخة شعرت بحبالي الصوتية تتقطع منها ، و ذاب من بعدها كل الجمود و هويت كورقة على الأرض ، و سمعت صوت باب الغرفة ينفتح بقوة ثم لم أعد أشعر إلا ببرد قارس و سكون !








في الممرات يركض المسعفون بسريرين لطفلين أحدهما لم يكمل عامه الرابع عشر ، و الدماء تلطخ قميصه السماوي و نزيف صدره يسكب كعين لن تجف ، و سماوية القميص تختفي شيئًا فشيئًا مع حمرة الدم القاتمة ، و بالسرير الآخر الطفل الذي بالكاد أكمل عامه الحادي عشر رأسه مغطاة بالرمال و الدماء القاتمة تسيل من رأسه على وجهه فترسم صورة مفجعة ، يهذي بحمى شحب منها وجهه _ ياسر ياسر ، انتظرني لن أتأخر ...
يقترب رجل في عقده الأربعين بوجه أسود من الفاجعة يقول بلهفة _  صقر صقر أنت بخير أليس كذلك !؟
يفتح نصف عينيه و دمعة تسللت منها فزادت من قسوة المنظر و يقول _ أين ياااسر ؟  أخبرني أين ياسر ؟
يرد الأب مكسور الجناح و قد ثقلت لسانه _ كلا كلا ، هو بخير ، سيكون بخير يا بني !
يغمض الصغير عينيه و يهمس _ لا تكذب لا تكذب ، هيا أخبره أنني قادم ، أخبره أن ينتظرني ، ياسر ياسر انتظرني !
و يعود إلى هذيانه في حين ان الوالد يتصنم في مكانه ، و يشاهد باب غرفة العمليات و هو يغلق في وجهه ، يرتجف كعصفور بردان ، يشعر بعظامه تتخابط فيما بينها ، تسقط دموعه غزيرة و يرتكي على الحائط خلفه و هو يترنح حتى يسقط على الأرض ، يستند بكفيه على الأرض و قد بدا وقع المصيبة في انحناءة ظهره الكسيرة ، و دموعه التي سقطت دون موانع ، يبكي بغبنة رجل فُجِعَ بقطعتين منه ، بفلذتي كبده !







نظرت لأمي التي تبكي بصمت و أبي الذي يربت على ظهرها ، علي أن أفعل شيئًا فهما على هذه الحال منذ ثلاث ساعات ، تقدمت بتردد و قلت متنهدًا _ أمي أبي ، يجب أن ترتاحا لن يفيد في شيء جلوسكما هذا !
أقفى والدي وجهه عني و تمتم بصوت مخنوق _ لا تهذي يا بني ، هل تريد أن نعود للمنزل ! ، إن كنت أنت تعبًا فاذهب لترتاح !
أمسكت رأسي بكلتا يداي و قلت مغادرًا _ لست تعبًا ، سأذهب لمكان ما و سأعود .
و ذهبت إلى موظف المستشفى ، علي أن أحجز لوالديَّ غرفة لعلهم يرضون بالراحة قليلًا بها .






كان المطر يهطل بغزارة و قد اختفت الشمس خلف الغيوم الرمادية ، و بدأ الظلام يتسحب ببطئ ، صوت العصافير خافت ، و منظر السماء يبدو حزينًا لرحيل ياسر الصغير ...
خرج الطبيب من الغرفة ليركض نحوه أحمد الذي لم ينم طوال الليل ، و قال بلهفة _ طمئنِّي يا دكتور عن صقر ، كيف هو ؟
تأمله لثانيتين شعره مشعث و الأرق بادٍ على وجهه ، زفر بخفة و ربت على كتفه قائلًا _ لقد فعلت كل ما بوسعي و لكنه ...
قاطعه مترنحًا نحو الحائط مستندًا عليه _ لا تقل لي ، صقر ليس أيضًا !
أمسكه من كتفيه و قربه منه قائلًا _ لم يتوفى يا بني ليس بعد ، علينا أن ننتظر أربع و عشرون ساعة كي نتأكد من حالته !
سقط رأسه بثقل على كتف الطبيب هامسًا بضعف _ أخبرني كيف حدث كل هذا ، و لم حدث أصلًا !؟
مسح على رأسه بهدوء و أسنده إليه قائلًا _ تعال معي أولًا علي أن أرى أختك !


أغمضت عيناي بقوة و أمسكت رأسي بكلتا يداي أريد أ، أوقف المشهد الذي يتكرر في رأسي ، اختراق الرصاصة لصدر ياسر سقوطه و صرخة صقر ثم سقوطه هو الآخر مع تطاير الدم من رأسه ، همست بحرقة _ ليتني لم أقترب من النافذة ، ألا يا ليت الرصاصة أخطأتهما .
هززت رأسي بحسرة عندما سمعت أمنيتي المستحيلة و هي تتردد على سمعي ، و دسست رأسي في الوسادة أكتم شهقاتي بدأت ترتفع مع ازدياد صداعي من المشهد الذي لا زال يعاود الظهور في رأسي !






فلتت منه شهقة عندما رأى جسدها يهتز ، و صوت شهقاتها يخترق هدوء الغرفة ، و مسح عينيه بخشونة عندما رأى أخوها يضمها و يبكي بصمت مربتًا على ظهرها ، همس لنفسه و هو يدير ظهره _ ما بالي ؟ متى سوف أعتاد على هذه المشاهد ، تبًا لي !
زفر و رفع صوته قائلًا _ كونا أقوى لأجل والديكما ، و ادعوا كثيرًا .
و قبل أن يخرج سمع سؤاله المرتجف _ و ماذا عن صقر ؟!
شحب وجهه و أخفض صوته قائلًا بهدوء _ لا تتركا الدعاء .
و غادر الغرفة بخطوات مسرعة ، هو يعرف أن حالة الطفل صقر نسبة النجاة فيها تحت النصف !
يتلقفه الممرض صائحًا بحماس _ دكتور لقد استيقظ الطفل ، لقد استيقظ ، ياللمعجزة !
تجمدت حواسه و رفع يده لرأسه ضاغطًا عليه بقوة ، و سمع الممرض يناديه متعجبًا _ دكتور ؟!
فلتت يده و نظر بأسى فضيع إلى الممرض و قال بانكسار _ تفقده و استدع عائلته يجب أن يروه الآن !
سأل بحيرة _ ألن تراه أولًا دكتور ؟!
همس مربتًا على كتفه بخفة _ لن أراه يا بني ، لقد صحى صحوة الموت !
و سار متثاقلًا و هو يقول بأسى _ ليس في هذا الوقت الحرج ، يا رب ، كيف سيتلقون خبر الثاني و خبر الأول لا زال طازجًا ، رحمااك بهم يا رب ..







قبل جبيني قائلًا ببحة مخنوقة _ فاطمة كوني أقوى ليكن الأولاد بخير
أرخيت رأسي على كتفه باكية _ و لكن ياسر ذهب و لن يعد ، لن يعد _ و ازدادت شهقاتي _ و صقر صقر صغيري ، لا أدري أسينجو أم لا ، آه يا محمد طفلنا ذهب من أيدينا ، ذهب !
أقفى ظهره و قبل أن يقل شيئًا ، طُرق الباب فمشى بخطوات متسارعة ، و جلست أنا فقدماي لم تعودا تحملانني ، فتح الباب بقلق شديد يظهر في حركة يده المرتعشة ، يصرخ ابني البكر بفرح عميق و الدموع تتساقط على خديه ببذخ _ والدي والدتي صقر استيقظ إنه بخير الآن !
سقطت ساجدة و ركض محمد إلى طفلنا ، و لحقتهم و دموعي تشوش رؤيتي ، كنت أبكي و أضحك ، دموعي تتساقط على ابتسامة شفتاي ، و دخلنا بعد أن عقمتنا الممرضة الشابة ، كنا في سكرة فرح ما بين فرح لصحوة صقر و ما بين حزن لمغادرة ياسر بدون رجعة ، كنت أقبل كف صقر الصغيرة و أستنشقها بفقد ، فصقر يحمل دومًا نفس رائحة ياسر ، كانا مترابطين بغض النظر عن فاصل العمر بينهما ، و لكن صقر في تلك اللحظات كان هادئ تمامًا بل أشبه بتمثال ، لم يتجاوب مع ضجة فرحنا ، كان صامتًا و ينظر إلينا بعينين خاويتين و وجه شاحب مزَّق قلبي ، محمد الذي كان يمسح على رأسه قال بابتسامة و بصوته رعشة و تهدج _ صقر حبيبي ، كيف حالك ؟ ماذا يؤلمك ؟ هل أحضر لك شيئًا ؟ قل أي شيء يا صغيري !
و امتعضت من نظرته الباردة الذي رمق بها زوجي ثم أغمض عينيه  ، فقال محمد بمواساة لنفسه و قد كان صوته اشبه بالبكاء من الكلام _ اووه صحيح ، بالتأكيد أنت تريد ماء أليس كذلك ؟ ، فأنت لن تستطيع الحديث معنا و حلقك جافة هكذا ، إنتظر لحظة واحدة ، سأخبر الطبيب عن هذا ..
و لكن صقر تحرك لأول مرة منذ دخلنا ، و أمسك بكف أبيه و ابتسم ، و ما كدت أقول شيئًا حتى جفلنا تمامًا عندما قال ببحة متعبة _ أنا أحبكم جدًا ، و لكنني لا أريد ماء ، أنا لست عطشان ، لقد سقاني ياسر قبل قليل ، شكرًا لك .
و سقط قلبي في هوة عميقة ، و شهقت و كأن روحي تنتزع مني عندما علا صوت جهاز النبض ، و عندما أغمض صغيري الآخر عينيه للأبد ، و ارتخت كفه الممسكة بأبيه و ارتخت مع حركته أركاني ، فغبت في عالم آخر و كان آخر ما رأيته دخول الطبيب و الممرضين بسرعة ، و قبل السكون الذي سمعته كان أصوات متداولة مزعجة ...








مرحبًا
أنا سيلا ، إنني لا أفهم ما يحدث هنا ، لقد خرج ياسر و صقر قبل أيام للعب و لم يعودا حتى اللحظة !
لقد افتقدتهما كثيرًا ، و أريد أن أراهما على الأقل ، لم أعد أريد الخروج معهما للعب مع الأصدقاء ، سألت خالتي التي نمت عندها ذاك اليوم عن غياب والداي و إخوتي فحاولت المرواغة و لم تجبني ، و عندما أصررت عليها قالت _ صلي يا صغيرتي ، ادعِ الله أن يأتي بهم !
و لم تسمح لي بخلع إحدى أسناني و وضعها تحت وسادتي كي تأخذها جنية الأسنان و تحقق أمنيتي بعودتهم ، فقالت أن جنية الأسنان لا تحقق شيئًا أبدًا ،و أن الله وحده هو القادر على تحقيق كل أمنياتي ، حاولت إقناعها بأن بطل كرتوني المفضل فعلها و نجح ، فقالت أنهم يكذبون بهذا ، و أن الله وحده هو الذي يسمعنا في كل وقت و مهما كان صوتنا خافتًا ..
أتعلمون ..
لقد تحققت أمنيتي ، لقد كانت خالتي محقة فالله سمعني عندما دعوته سرًا ، إلى جانب أنه لا يجب علي احتمال ألم خلع سني و إعطاؤه لجنية الأسنان ، فالله أجابني دون أي ألم ، جاؤوا جميعًا قبل الغروب بقليل ، كانت عينا أمي حمراوين و متورمتين ، سألتها ( من ضربها ؟ ) فبكت !
حاولت تهدئتها و لم تهدأ ، أخبرتها أنني سأضرب من ضربها فازدادت بكاء ، فبكيت معها !
احتضنني والدي حينا و كانت لحيته مبللة فقلت بشهقة _ ستمرض !
فأغرق وجهه بعنقي و قال بصوت خافت _ ياسر و صقر ذهبا إلى الله !
لا لا أصدق ، نفضت نفسي بقوة و تراجعت للخلف باكية بصدمة _ و لمَ لم يخبرانني ؟! ، كنت أريد الذهاب إلى الله لأشكره مجيئكم و تحقيقه أمنيتي ، لماذا لم تخبروهما أن ينتظرانني ؟! أنا أريد أن أذهب معهما _ و رفعت كفي الصغيرين و غطيت وجهي و قلت بصوت خافت  - يا الله كنت أريد أن أذهب إليك لأشكرك ، لكنهما لم ينتظرانني ، يا الله سامحني يا الله !
كنت أشهق مرددة _ كنت أريد الذهاب إليك ، كنت أريد ذلك !
و عندها اقتربت والدتي و ضمتني إليها و هي تردد _ كفى حبيبتي كفى أرجوك !


مر شهر !
لا زلت أدعو الله أن يأتي بياسر و صقر ، كنت أعلم بأن الله لن يستجيب لي ما دمت لم أذهب إليه لأشكره ، لكنني لن أيأس فأنا أشتاق لأخويَّ كثيرًا و يجب أن أراهما يومًا ما !
والدتي باتت هزيلة و حزينة و شاردة طوال الوقت ، عندما أحتضنها لتبتسم و تقبلني كما كانت تفعل ، و لكنها أصبحت تبكي عندما أحتضنها ، و لا تجيبني عندما أسألها لم تبكي ! ، فلم أعد أحتضنها كثيرًا رغم أنني أشتاق لذلك ...
انتصار شقيقتي لم تعد تخرج من حجرتها إلا قليلًا ، سمعتها تكلم ابنة خالتي رحاب عن رسوبها في إحدى مواد الإمتحان ، غريب فانتصار كانت الأولى دائمًا في المدرسة ..!
أما شقيقي أحمد فلم نعد نراه كثيرًا ، إنه في الخارج طوال النهار و في لليل يعود متأخرًا للمنزل و غالبًا ما أنام قبل أن يصل فلا أراه ، وجهه شاحب و قد أصبح نحيل جدًا ، و حتى زواجه من رحاب لم يقيمه و عندما سألته قال بأنه سيؤخره بعض الوقت ، رغم أنني كنت قد اشتريت فستان أبيض جميل جدًا لأرتديه في عرسه !
والدي أيضًا أصبح يتأخر في العمل ، و عندما يعود إلى المنزل و يحتضنني بتعب ، و ينسى أن يحضر لي السكاكر كما كان يفعل دومًا ، و أحيانًا ينسى احتضاني حتى و لكنني أحتضنه أنا إن لم يفعل !
لقد أصبح المنزل صامتًا ، على طاولة الطعام و حتى عند الخروج لمكان بالسيارة نكون صامتون و لا يتحدث أحد كثيرًا !
اشتقت لصراعي مع صقر على الجلوس بجانب النافذة ، و مع ياسر بالجلوس في المقعد المجاور لمقعد السائق ، مع ذلك أصبحت أجلس في أي مكان و لا أقول شيئًا عن فقدي لأخواي ، فكلنا نفتقدهما و لا فائدة من البكاء كما قالت خالتي ، كل ما علينا فعله هو الدعاء .
و لهذا كله فقد أصبحت أجلس مع عروستي و أحادثها كثيرًا ، أعرف أنها تسمعني و تحبني فقد قال لي صقر ذلك .
إنني آكل جيدًا ، يجب أن أكبر ، يجب أن أذهب إلى الله لأشكره دون حاجة لمن يرافقني في طريقي إليه ، فعندما أكبر لن أخاف من صوت القذائف ، و لا من الكلاب التي تنبح في الليل بصوت مخيف ، سأكون قوية مثل صقر ، و ذكية مثل ياسر ، سأشكر الله أنه أحضر لي والداي و إخوتي ، و سأدعوه أن يجمعنا جميعًا في مكان لا نفترق بعده أبدًا ، سنعود كما كنا ، سعيدين و وجوهنا مشرقة ، سنضحك كثيرًا لأننا لن نفترق أبدًا ...

تمـت بحمد الله .

.. شهيدين بطلقة ..




_ انتظروني يا رفاق , سأعود
_ لحظة ياسر , انتظرني سأذهب معك .
_ حسنًا اسرع , قبل ان نتأخر فيبدؤوا اللعبة ...






أشعر بإرهاق شديد , بالكاد افتح نصف عيناي , و سلاحي على كتفي كأنه جبل , كان اليوم بائسا فجيشنا لم يحرز أي تقدم , ياللسخافة ! , حسنًا يجب ان أصل لغرفتي سريعًا لأرتاح !
ارتميت ع الاريكة بجانب النافذة بعد حمام دافئ أراح اعصابي المشدودة , و تناولت سلاحي لتنظيفه من بقايا الرصاص كما اعتدت , أخرجت المخزن ووضعته على الطاولة , ثم وجهت الفوهة للنافذة و ضغطت على الزناد مع اهتزاز ذراعي للأسفل بسبب المفاجأة ... !







بامتعاض _ سيلا صغيرتي هل خرج ياسر و صقر ؟
_ نعم ، خرجا مع اصدقاءهما قبل قليل و لم يسمحا لي بالخروج معهما !
استأنفت طريقها نحو غرفة ابنتها الكبرى بقلق و توتر هامسة " يا رب احفظهم يا رب " !









وضعت الكتاب على المكتب ، و قمت من كرسيي و مشت ببطء و تعب نحو النافذة و بين يدي كوب القهوة الذي لا زال دافئًا ، أرخيت جبيني على الزجاج و تأملت الشارع الهادئ في مثل هذه الساعة من المغرب ، و بشكل سريع و مفاجئ اخترق الصوت أذني و اتسعت عيناي أمام المنظر المهول لثوان ، ثم صمتت جوارحي و سقطت يداي مع كوب القهوة مصدرة صوت مرعب ، خمس ثوان كانت هي المدة التي بقيت احدق بها للمنظر في الخارج ، كانت و كأنها سنينًا لن تنتهي ، فجسدي متيبس رغم الخدر الذي بدأ يلفني ، و الظلام الذي بدأ يكتسح مجال رؤيتي ، دوامة عنيفة أخذتني معها ، فصرخت صرخة شعرت بحبالي الصوتية تتقطع منها ، و ذاب من بعدها كل الجمود و هويت كورقة على الأرض ، و سمعت صوت باب الغرفة ينفتح بقوة ثم لم أعد أشعر إلا ببرد قارس و سكون !








في الممرات يركض المسعفون بسريرين لطفلين أحدهما لم يكمل عامه الرابع عشر ، و الدماء تلطخ قميصه السماوي و نزيف صدره يسكب كعين لن تجف ، و سماوية القميص تختفي شيئًا فشيئًا مع حمرة الدم القاتمة ، و بالسرير الآخر الطفل الذي بالكاد أكمل عامه الحادي عشر رأسه مغطاة بالرمال و الدماء القاتمة تسيل من رأسه على وجهه فترسم صورة مفجعة ، يهذي بحمى شحب منها وجهه _ ياسر ياسر ، انتظرني لن أتأخر ...
يقترب رجل في عقده الأربعين بوجه أسود من الفاجعة يقول بلهفة _  صقر صقر أنت بخير أليس كذلك !؟
يفتح نصف عينيه و دمعة تسللت منها فزادت من قسوة المنظر و يقول _ أين ياااسر ؟  أخبرني أين ياسر ؟
يرد الأب مكسور الجناح و قد ثقلت لسانه _ كلا كلا ، هو بخير ، سيكون بخير يا بني !
يغمض الصغير عينيه و يهمس _ لا تكذب لا تكذب ، هيا أخبره أنني قادم ، أخبره أن ينتظرني ، ياسر ياسر انتظرني !
و يعود إلى هذيانه في حين ان الوالد يتصنم في مكانه ، و يشاهد باب غرفة العمليات و هو يغلق في وجهه ، يرتجف كعصفور بردان ، يشعر بعظامه تتخابط فيما بينها ، تسقط دموعه غزيرة و يرتكي على الحائط خلفه و هو يترنح حتى يسقط على الأرض ، يستند بكفيه على الأرض و قد بدا وقع المصيبة في انحناءة ظهره الكسيرة ، و دموعه التي سقطت دون موانع ، يبكي بغبنة رجل فُجِعَ بقطعتين منه ، بفلذتي كبده !







نظرت لأمي التي تبكي بصمت و أبي الذي يربت على ظهرها ، علي أن أفعل شيئًا فهما على هذه الحال منذ ثلاث ساعات ، تقدمت بتردد و قلت متنهدًا _ أمي أبي ، يجب أن ترتاحا لن يفيد في شيء جلوسكما هذا !
أقفى والدي وجهه عني و تمتم بصوت مخنوق _ لا تهذي يا بني ، هل تريد أن نعود للمنزل ! ، إن كنت أنت تعبًا فاذهب لترتاح !
أمسكت رأسي بكلتا يداي و قلت مغادرًا _ لست تعبًا ، سأذهب لمكان ما و سأعود .
و ذهبت إلى موظف المستشفى ، علي أن أحجز لوالديَّ غرفة لعلهم يرضون بالراحة قليلًا بها .






كان المطر يهطل بغزارة و قد اختفت الشمس خلف الغيوم الرمادية ، و بدأ الظلام يتسحب ببطئ ، صوت العصافير خافت ، و منظر السماء يبدو حزينًا لرحيل ياسر الصغير ...
خرج الطبيب من الغرفة ليركض نحوه أحمد الذي لم ينم طوال الليل ، و قال بلهفة _ طمئنِّي يا دكتور عن صقر ، كيف هو ؟
تأمله لثانيتين شعره مشعث و الأرق بادٍ على وجهه ، زفر بخفة و ربت على كتفه قائلًا _ لقد فعلت كل ما بوسعي و لكنه ...
قاطعه مترنحًا نحو الحائط مستندًا عليه _ لا تقل لي ، صقر ليس أيضًا !
أمسكه من كتفيه و قربه منه قائلًا _ لم يتوفى يا بني ليس بعد ، علينا أن ننتظر أربع و عشرون ساعة كي نتأكد من حالته !
سقط رأسه بثقل على كتف الطبيب هامسًا بضعف _ أخبرني كيف حدث كل هذا ، و لم حدث أصلًا !؟
مسح على رأسه بهدوء و أسنده إليه قائلًا _ تعال معي أولًا علي أن أرى أختك !


أغمضت عيناي بقوة و أمسكت رأسي بكلتا يداي أريد أ، أوقف المشهد الذي يتكرر في رأسي ، اختراق الرصاصة لصدر ياسر سقوطه و صرخة صقر ثم سقوطه هو الآخر مع تطاير الدم من رأسه ، همست بحرقة _ ليتني لم أقترب من النافذة ، ألا يا ليت الرصاصة أخطأتهما .
هززت رأسي بحسرة عندما سمعت أمنيتي المستحيلة و هي تتردد على سمعي ، و دسست رأسي في الوسادة أكتم شهقاتي بدأت ترتفع مع ازدياد صداعي من المشهد الذي لا زال يعاود الظهور في رأسي !






فلتت منه شهقة عندما رأى جسدها يهتز ، و صوت شهقاتها يخترق هدوء الغرفة ، و مسح عينيه بخشونة عندما رأى أخوها يضمها و يبكي بصمت مربتًا على ظهرها ، همس لنفسه و هو يدير ظهره _ ما بالي ؟ متى سوف أعتاد على هذه المشاهد ، تبًا لي !
زفر و رفع صوته قائلًا _ كونا أقوى لأجل والديكما ، و ادعوا كثيرًا .
و قبل أن يخرج سمع سؤاله المرتجف _ و ماذا عن صقر ؟!
شحب وجهه و أخفض صوته قائلًا بهدوء _ لا تتركا الدعاء .
و غادر الغرفة بخطوات مسرعة ، هو يعرف أن حالة الطفل صقر نسبة النجاة فيها تحت النصف !
يتلقفه الممرض صائحًا بحماس _ دكتور لقد استيقظ الطفل ، لقد استيقظ ، ياللمعجزة !
تجمدت حواسه و رفع يده لرأسه ضاغطًا عليه بقوة ، و سمع الممرض يناديه متعجبًا _ دكتور ؟!
فلتت يده و نظر بأسى فضيع إلى الممرض و قال بانكسار _ تفقده و استدع عائلته يجب أن يروه الآن !
سأل بحيرة _ ألن تراه أولًا دكتور ؟!
همس مربتًا على كتفه بخفة _ لن أراه يا بني ، لقد صحى صحوة الموت !
و سار متثاقلًا و هو يقول بأسى _ ليس في هذا الوقت الحرج ، يا رب ، كيف سيتلقون خبر الثاني و خبر الأول لا زال طازجًا ، رحمااك بهم يا رب ..







قبل جبيني قائلًا ببحة مخنوقة _ فاطمة كوني أقوى ليكن الأولاد بخير
أرخيت رأسي على كتفه باكية _ و لكن ياسر ذهب و لن يعد ، لن يعد _ و ازدادت شهقاتي _ و صقر صقر صغيري ، لا أدري أسينجو أم لا ، آه يا محمد طفلنا ذهب من أيدينا ، ذهب !
أقفى ظهره و قبل أن يقل شيئًا ، طُرق الباب فمشى بخطوات متسارعة ، و جلست أنا فقدماي لم تعودا تحملانني ، فتح الباب بقلق شديد يظهر في حركة يده المرتعشة ، يصرخ ابني البكر بفرح عميق و الدموع تتساقط على خديه ببذخ _ والدي والدتي صقر استيقظ إنه بخير الآن !
سقطت ساجدة و ركض محمد إلى طفلنا ، و لحقتهم و دموعي تشوش رؤيتي ، كنت أبكي و أضحك ، دموعي تتساقط على ابتسامة شفتاي ، و دخلنا بعد أن عقمتنا الممرضة الشابة ، كنا في سكرة فرح ما بين فرح لصحوة صقر و ما بين حزن لمغادرة ياسر بدون رجعة ، كنت أقبل كف صقر الصغيرة و أستنشقها بفقد ، فصقر يحمل دومًا نفس رائحة ياسر ، كانا مترابطين بغض النظر عن فاصل العمر بينهما ، و لكن صقر في تلك اللحظات كان هادئ تمامًا بل أشبه بتمثال ، لم يتجاوب مع ضجة فرحنا ، كان صامتًا و ينظر إلينا بعينين خاويتين و وجه شاحب مزَّق قلبي ، محمد الذي كان يمسح على رأسه قال بابتسامة و بصوته رعشة و تهدج _ صقر حبيبي ، كيف حالك ؟ ماذا يؤلمك ؟ هل أحضر لك شيئًا ؟ قل أي شيء يا صغيري !
و امتعضت من نظرته الباردة الذي رمق بها زوجي ثم أغمض عينيه  ، فقال محمد بمواساة لنفسه و قد كان صوته اشبه بالبكاء من الكلام _ اووه صحيح ، بالتأكيد أنت تريد ماء أليس كذلك ؟ ، فأنت لن تستطيع الحديث معنا و حلقك جافة هكذا ، إنتظر لحظة واحدة ، سأخبر الطبيب عن هذا ..
و لكن صقر تحرك لأول مرة منذ دخلنا ، و أمسك بكف أبيه و ابتسم ، و ما كدت أقول شيئًا حتى جفلنا تمامًا عندما قال ببحة متعبة _ أنا أحبكم جدًا ، و لكنني لا أريد ماء ، أنا لست عطشان ، لقد سقاني ياسر قبل قليل ، شكرًا لك .
و سقط قلبي في هوة عميقة ، و شهقت و كأن روحي تنتزع مني عندما علا صوت جهاز النبض ، و عندما أغمض صغيري الآخر عينيه للأبد ، و ارتخت كفه الممسكة بأبيه و ارتخت مع حركته أركاني ، فغبت في عالم آخر و كان آخر ما رأيته دخول الطبيب و الممرضين بسرعة ، و قبل السكون الذي سمعته كان أصوات متداولة مزعجة ...








مرحبًا
أنا سيلا ، إنني لا أفهم ما يحدث هنا ، لقد خرج ياسر و صقر قبل أيام للعب و لم يعودا حتى اللحظة !
لقد افتقدتهما كثيرًا ، و أريد أن أراهما على الأقل ، لم أعد أريد الخروج معهما للعب مع الأصدقاء ، سألت خالتي التي نمت عندها ذاك اليوم عن غياب والداي و إخوتي فحاولت المرواغة و لم تجبني ، و عندما أصررت عليها قالت _ صلي يا صغيرتي ، ادعِ الله أن يأتي بهم !
و لم تسمح لي بخلع إحدى أسناني و وضعها تحت وسادتي كي تأخذها جنية الأسنان و تحقق أمنيتي بعودتهم ، فقالت أن جنية الأسنان لا تحقق شيئًا أبدًا ،و أن الله وحده هو القادر على تحقيق كل أمنياتي ، حاولت إقناعها بأن بطل كرتوني المفضل فعلها و نجح ، فقالت أنهم يكذبون بهذا ، و أن الله وحده هو الذي يسمعنا في كل وقت و مهما كان صوتنا خافتًا ..
أتعلمون ..
لقد تحققت أمنيتي ، لقد كانت خالتي محقة فالله سمعني عندما دعوته سرًا ، إلى جانب أنه لا يجب علي احتمال ألم خلع سني و إعطاؤه لجنية الأسنان ، فالله أجابني دون أي ألم ، جاؤوا جميعًا قبل الغروب بقليل ، كانت عينا أمي حمراوين و متورمتين ، سألتها ( من ضربها ؟ ) فبكت !
حاولت تهدئتها و لم تهدأ ، أخبرتها أنني سأضرب من ضربها فازدادت بكاء ، فبكيت معها !
احتضنني والدي حينا و كانت لحيته مبللة فقلت بشهقة _ ستمرض !
فأغرق وجهه بعنقي و قال بصوت خافت _ ياسر و صقر ذهبا إلى الله !
لا لا أصدق ، نفضت نفسي بقوة و تراجعت للخلف باكية بصدمة _ و لمَ لم يخبرانني ؟! ، كنت أريد الذهاب إلى الله لأشكره مجيئكم و تحقيقه أمنيتي ، لماذا لم تخبروهما أن ينتظرانني ؟! أنا أريد أن أذهب معهما _ و رفعت كفي الصغيرين و غطيت وجهي و قلت بصوت خافت  - يا الله كنت أريد أن أذهب إليك لأشكرك ، لكنهما لم ينتظرانني ، يا الله سامحني يا الله !
كنت أشهق مرددة _ كنت أريد الذهاب إليك ، كنت أريد ذلك !
و عندها اقتربت والدتي و ضمتني إليها و هي تردد _ كفى حبيبتي كفى أرجوك !


مر شهر !
لا زلت أدعو الله أن يأتي بياسر و صقر ، كنت أعلم بأن الله لن يستجيب لي ما دمت لم أذهب إليه لأشكره ، لكنني لن أيأس فأنا أشتاق لأخويَّ كثيرًا و يجب أن أراهما يومًا ما !
والدتي باتت هزيلة و حزينة و شاردة طوال الوقت ، عندما أحتضنها لتبتسم و تقبلني كما كانت تفعل ، و لكنها أصبحت تبكي عندما أحتضنها ، و لا تجيبني عندما أسألها لم تبكي ! ، فلم أعد أحتضنها كثيرًا رغم أنني أشتاق لذلك ...
انتصار شقيقتي لم تعد تخرج من حجرتها إلا قليلًا ، سمعتها تكلم ابنة خالتي رحاب عن رسوبها في إحدى مواد الإمتحان ، غريب فانتصار كانت الأولى دائمًا في المدرسة ..!
أما شقيقي أحمد فلم نعد نراه كثيرًا ، إنه في الخارج طوال النهار و في لليل يعود متأخرًا للمنزل و غالبًا ما أنام قبل أن يصل فلا أراه ، وجهه شاحب و قد أصبح نحيل جدًا ، و حتى زواجه من رحاب لم يقيمه و عندما سألته قال بأنه سيؤخره بعض الوقت ، رغم أنني كنت قد اشتريت فستان أبيض جميل جدًا لأرتديه في عرسه !
والدي أيضًا أصبح يتأخر في العمل ، و عندما يعود إلى المنزل و يحتضنني بتعب ، و ينسى أن يحضر لي السكاكر كما كان يفعل دومًا ، و أحيانًا ينسى احتضاني حتى و لكنني أحتضنه أنا إن لم يفعل !
لقد أصبح المنزل صامتًا ، على طاولة الطعام و حتى عند الخروج لمكان بالسيارة نكون صامتون و لا يتحدث أحد كثيرًا !
اشتقت لصراعي مع صقر على الجلوس بجانب النافذة ، و مع ياسر بالجلوس في المقعد المجاور لمقعد السائق ، مع ذلك أصبحت أجلس في أي مكان و لا أقول شيئًا عن فقدي لأخواي ، فكلنا نفتقدهما و لا فائدة من البكاء كما قالت خالتي ، كل ما علينا فعله هو الدعاء .
و لهذا كله فقد أصبحت أجلس مع عروستي و أحادثها كثيرًا ، أعرف أنها تسمعني و تحبني فقد قال لي صقر ذلك .
إنني آكل جيدًا ، يجب أن أكبر ، يجب أن أذهب إلى الله لأشكره دون حاجة لمن يرافقني في طريقي إليه ، فعندما أكبر لن أخاف من صوت القذائف ، و لا من الكلاب التي تنبح في الليل بصوت مخيف ، سأكون قوية مثل صقر ، و ذكية مثل ياسر ، سأشكر الله أنه أحضر لي والداي و إخوتي ، و سأدعوه أن يجمعنا جميعًا في مكان لا نفترق بعده أبدًا ، سنعود كما كنا ، سعيدين و وجوهنا مشرقة ، سنضحك كثيرًا لأننا لن نفترق أبدًا ...

تمـت بحمد الله .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Follow Us @techandinv